الشهادة أعظم المنافع من جهة الآخرة، وإن كانت مضرة بحسب الظاهر. فإن قلت: هل يجوز أن تتعلق حتى بالفعلين المذكورين بأن يتنازعا فيها. قلت: لا مانع من ذلك، لا من جهة المعنى ولا من جهة الإعراب. فإن قلت: إذا كان: حتى، بمعنى: إلى، ويكون معنى: حتى يأتي أمر الله: إلى أن يأتي أمر الله. هل يكون بينهما فرق؟ قلت: نعم بينهما فرق، لأن مجرور: حتى، يجب أن يكون آخر جزء من الشيء أو ما يلاقي آخر جزء منه. وقال الزمخشري في قوله: * (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم) * (الحجرات: 5) الفرق بينهما أن: حتى، مختصة بالغاية المضروبة، أي المعينة. تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولو قلت: حتى نصفها أو صدرها لم يجز، و: إلى، عامة في كل غاية. فافهم.
بيان المعاني: فيه تنكير قوله: خيرا، لفائدة التعميم، لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي، فالمعنى: من يرد الله به جميع الخيرات. ويجوز أن يكون التنوين للتعظيم، والمقام يقتضي ذلك كما في قول الشاعر:
* له حاجب عن كل أمر يشينه * أي: صاحب عظيم، ومانع قوي. وفيه إنما التي تفيد الحصر، والمعنى: ما أنا إلا قاسم. فإن قلت: كيف يصح هذا وله صفات أخرى مثل كونه رسولا ومبشرا ونذيرا. قلت: الحصر بالنسبة إلى اعتقاد السامع، وهذا ورد في مقام كان السامع معتقدا كونه معطيا، وإن اعتقد أنه قاسم فلا ينفي إلا ما اعتقده السامع، لا كل صفة من الصفات، وحينئذ إن اعتقد أنه معط لا قاسم فيكون من باب قصر القلب، أي: ما أنا إلا قاسم، أي: لا معط، وإن اعتقد أنه قاسم ومعط أيضا فيكون من قصر الإفراد، أي: لا شركة في الوصفين، أي: بل أنا قاسم فقط، ومعناه أنا أقسم بينكم، فألقى إلى كل واحد ما يليق به، والله يوفق من يشاء منكم لفهمه والتفكر في معناه. وقال التوربشتى: إعلم أن النبي، عليه الصلاة والسلام، أعلم أصحابه أنه لم يفضل في قسمة ما أوحى الله إليه أحدا من أمته على أحد، بل سوى في البلاغ وعدل في القسمة، وإنما التفاوت في الفهم وهو واقع من طريق العطاء، ولقد كان بعض الصحابة، رضي الله عنهم، يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمعه آخر منهم، أو من بعدهم، فيستنبط منه مسائل كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وقال الشيخ قطب الدين في شرحه: (إنما أنا قاسم)، يعني: أنه لم يستأثر بشيء من مال الله، وقال النبي، عليه الصلاة والسلام: (ما لي بما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود عليكم). وإنما قال: (أنا قاسم) تطييبا لنفوسهم لمفاضلته في العطاء، فالمال لله والعباد لله وأنا قاسم بإذن الله ماله بين عباده. قلت: بين الكلامين بون، لأن الكلام الأول يشعر القسمة في تبليغ الوحي وبيان الشريعة، وهذا الكلام صريح في قسمة المال. ولكل منهما وجه. أما الأول: فإن نظر صاحبه إلى سياق الكلام فإنه أخبر فيه أن من أراد الله به خيرا يفقهه في الدين، أي: في دين الإسلام. قال الله تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * (آل عمران: 19) وقيل: الفقه في الدين الفقه في القواعد الخمس، ويتصل الكلام عليها في الأحكام الشرعية، ثم لما كان فقههم متفاوتا لتفاوت الأفهام أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما أنا قاسم). يعني هذا التفاوت ليس مني، وإنما الذي هو مني هو القسمة بينكم يعنى: تبليغ الوحي إليهم من غير تخصيص بأحد، والتفاوت في أفهامهم من الله تعالى، لأنه هو المعطي، يعطي الناس على قدر ما تعلقت به إرادته، لأن ذلك فضل منه يؤتيه من يشاء. وأما الثاني: فإن نظر صاحبه إلى ظاهر الكلام، لأن القسمة حقيقة تكون في الأموال، ولكن يتوجه هنا السؤال عن وجه مناسبة هذا الكلام لما قبله، ويمكن أن يجاب عنه بأن مورد الحديث كان وقت قسمة المال حين خصص، عليه السلام، بعضهم بالزيادة لحكمة اقتضت ذلك، وخفيت عليهم، حتى تعرض منهم بأن هذه قسمة فيها تخصيص لناس، فرد عليهم النبي، عليه الصلاة والسلام، وبقوله: (من يرد الله به) إلى آخره...، يعني: من أراد الله به خيرا يوفقه ويزيد له في فهمه في أمور الشرع، ولا يتعرض لأمر ليس على وفق خاطره، إذ الأمر كله لله، وهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يزيد وينقص، والنبي، عليه الصلاة والسلام، قاسم وليس بمعط حتى ينسب إليه الزيادة والنقصان، وعن هذا فسر أصحاب الكلام الثاني قوله عليه الصلاة والسلام: (والله يعطي) بقولهم: أي: من قسمت له كثيرا فبقدر الله تعالى، وما سبق له في الكتاب، وكذا من قسمت له قليلا فلا يزداد لأحد في رزقه، كما لا يزداد في أجله. وقال الداودي: في قوله: (إنما أنا قاسم والله يعطي)، دليل على أنه إنما يعطي بالوحي، ثم قال في آخر كلامه: إن شأن أمته القيام على أمر الله إلى يوم القيامة، وهم الذين أراد الله بهم خيرا، حتى فقهوا في الدين، ونصروا الحق ولم يخافوا ممن خالفهم، ولا أكثر ثوابهم: