عمدة القاري - العيني - ج ٢ - الصفحة ٢
3 ((كتاب العلم)) الكلام فيه على أنواع:
الأول: أن لفظ: كتاب، مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى العلم، والتقدير: هذا كتاب العلم. أي: في بيان ما يتعلق به، وليس هو في بيان ماهية العلم، لأن النظر في الماهيات وحقائق الأشياء ليس من فن الكتاب.
الثاني: أنه قدم هذا الكتاب على سائر الكتب التي بعده لأن مدار تلك الكتب كلها على العلم، وإنما لم يقدم على كتاب الإيمان لأن الإيمان أول واجب على المكلف، أو لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها. وكيف لا وهو مبدأ كل خير علما وعملا؟ ومنشأ كل كمال دقا وجلا؟. فإن قلت: فلم قدم كتاب الوحي عليه؟ قلت: لتوقف معرفة الإيمان وجميع ما يتعلق بالدين عليه، أو لأنه أول خير نزل من السماء إلى هذه الأمة. وقد أشبعنا الكلام في كتاب الإيمان. فليعاود هناك.
الثالث: أن العلم في اللغة مصدر: علمت وأعلم علما. قال الجوهري: علمت الشيء أعلمه علما: عرفته، بالكسر، فهذا كما ترى لم يفرق بين العلم والمعرفة، والفرق بينهما ظاهر، لأن المعرفة إدراك الجزئيات، والعلم إدراك الكليات، ولهذا لا يجوز أن يقال: الله عارف كما يقال: عالم. وقال ابن سيده: العلم نقيض الجهل، علم علما، وعلم هو نفسه، ورجل عالم وعليم من قوم علماء، وعلام وعلامة من قوم علامين، والعلام والعلامة: النسابة. ويقال، إذا بولغ في وصف الشخص بالعلم، يقال له: علامة، وعلمه العلم وأعلمه إياه فتعلمه، وفرق سيبويه بينهما، فقال: علمت كأدبت، وأعلمت كأديت. وقال أبو عبيد عبد الرحمان: عالمني فلان فعلمته أعلمه، بالضم، وكذلك كل ما كان من هذا الباب بالكسر في: يفعل، فإنه في باب المغالبة يرفع إلى الضم: كضاربته فضربته أضربه. وعلم بالشيء: شعر، وقال يعقوب: إذا قيل لك: اعلم كذا. قلت: قد علمت. وإذا قيل: تعلم. لم تقل: قد تعلمت. وفي المخصص: علمته الأمر، وأعلمته إياه فعلمه وتعلمه. وقال أبو علي: سمي العلم علما لأنه من العلامة، وهي الدلالة والإشارة، ومما هو ضرب من العلم. قولهم: اليقين، ولا ينعكس فنقول: كل يقين علم، وليس كل علم يقينا، وذلك أن اليقين علم يحصل بعد استكمال استدلال ونظر لغموض فيه، والعلم: النظر والتصفح، ومن العلم الدراية، وهي ضرب منه مخصوص. ثم العلماء اختلفوا في حد العلم، فقال بعضهم: لا يحد، وهؤلاء اختلفوا في سبب عدم تحديده، فقال إمام الحرمين والغزالي: لعسر تحديده، وإنما تعريفه بالقسمة والمثال. وقال بعضهم، ومنهم الإمام فخر الدين: لأنه ضروري، إذ لو لم يكن ضروريا لزم الدور، واللازم باطل، فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أنه لو لم يكن ضروريا لكان نظريا، إذ لا واسطة، ولو كان نظريا لزم الدور، ينتج أنه لو لم يكن ضروريا لزم الدور، وإنما قلنا: إنه لو كان نظريا لزم الدور، لأنه لو كان نظريا لعلم بغير العلم لامتناع اكتسابه من نفسه، وغير العلم لا يعلم إلا بالعلم، فليزم معرفة العلم بغير العلم الذي لا يعلم إلا بالعلم، فيلزم الدور، وهو محال لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه، واستلزامه امتناع تصور العلم المتصور. وقال الآخرون: إنه يحد، ولهم فيه أقوال، وأصح الحدود أنه صفة من صفات النفس، توجب تمييزا لا يحتمل النقيض في الأمور المعنوية، فقوله: صفة، جنس لتناوله لجميع صفات النفس. وقوله: توجب تمييزا، احتراز عما لم يوجب تمييزا كالحياة. وقوله: لا يحتمل النقيض، احتراز عن مثال الظن، وقوله: في الأمور المعنوية، يخرج إدراك الحواس، لأن إدراكها في الأمور الظاهرة المحسوسة.
(٢)
الذهاب إلى صفحة: 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 ... » »»