عمدة القاري - العيني - ج ٢ - الصفحة ١٤٨
الصحابة حينئذ، ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي، من حمير، بسيف مسموم فأوصله دماغه في ليلة الجمعة ومات بالكوفة ليلة الأحد تاسع عشر رمضان سنة أربعين عن ثلاث وستين سنة، وكان آدم اللون أصلع ربعة، أبيض الرأس واللحية، وربما خضب لحيته، وكانت له لحية كثة طويلة، حسن الوجه كأنه القمر ليلة البدر، ضحوك السن، وقبره بالكوفة، ولكنه غيب خوفا من الخوارج، وليس في الصحابة من اسمه: علي بن أبي طالب غيره، وفي الرواة: علي بن أبي طالب، ثمانية سواه.
بيان لطائف إسناده منها: أن في إسناده التحديث والإخبار بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والسماع. ومنها: أن رواته أئمة أجلاء. ومنها: أنهم ما بين بغدادي وواسطي وكوفي ومدني. ومنها: أن فيه رواية تابعي صغير عن تابعي كبير.
بيان من أخرجه غيره: أخرجه مسلم أيضا في مقدمة كتابه عن أبي بكر بن أبي شيبة. وابن مثنى، وابن بشار ثلاثتهم عن غندر عن شعبة به. وأخرجه الترمذي في العلم عن إسماعيل بن موسى الفزاري عن شريك بن عبد الله عن منصور بن المعتمر عنه به، وقال: حسن صحيح. وفي المناقب عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن شريك نحوه. وأخرجه النسائي في العلم عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث وعن بندار عن يحيى كلاهما عن شعبة به. وأخرجه ابن ماجة في السنة عبد الله بن عامر بن زرارة وإسماعيل بن موسى كلاهما عن شريك به.
بيان اللغات والإعراب والمعاني: قوله: (لا تكذبوا علي) نهي بصيغة الجمع، وهو عام في كل كذب مطلق في كل نوع منه. فإن قلت: هل فرق بين كذب عليه، وكذب له. أم الحكم فيهما سواء؟ قلت: معنى كذب عليه، نسبة الكلام إليه كاذبا، سواء كان عليه أو له، والكذب على الله داخل تحت الكذب على الرسول، عليه السلام، إذ المراد من الكذب عليه الكذب في أحكام الدين. فإن قلت: الكذب من حيث هو معصية فكل كاذب عاص وكل عاص يلج النار لقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) * (النساء: 4) فما فائدة لفظة: علي، فإن الحكم عام في كل من كذب على أحد. قلت: لا شك أن الكذب على الرسول، عليه الصلاة والسلام، أشد من الكذب على غيره لكونه مقتضيا شرعا عاما باقيا إلى يوم القيامة، فخص بالذكر لذلك أو الكذب عليه كبيرة، وعلى غيره صغيرة، والصغائر مكفرة عند الاجتناب عن الكبائر، أو المراد من قوله تعالى: * (ومن يعص الله) * (النساء: 4) الكبيرة. فإن قلت: الشرط سبب للجزاء، فكيف يتصور سببية الكذب للأمر بالولوج. نعم، إنه سبب للولوج نفسه. قلت: هو سبب للازمه، لأن لازم الأمر الإلزام، وكون الكذب سببا لإلزام الولوج معنى صحيح. قوله: (فإنه من كذب علي) جواب النهي، فلذلك دخلته الفاء، والضمير في: فإنه، للشأن. وهو اسم: إن. وقوله: (من كذب علي) في محل الرفع على أنه خبر: إن. وكلمة: من، موصولة تتضمن معنى الشرط. وقوله: (فليلج النار)، جواب الشرط، فلذلك دخلته: الفاء، أي: فليدخل النار. من ولج يلج، ولوجا ولجة إذا دخل. وقال سيبويه: إنما جاء مصدره ولوجا، وهو من مصادر غير المتعدي على معنى: ولجت فيه، وأصل فليلج: فليولج، حذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة، وبابه من باب: ضرب يضرب، وكذلك لجة واصلها: ولجة، مثل: عدة، أصلها: وعد فلما حذفت الواو منها تبعا لفعلها عوضت عنها الهاء. قوله: (النار) منصوب بتقدير في، لأن أصله لازم كما ذكرناه، وهو من قبيل قولك: دخلت الدار. والتقدير: دخلت في الدار. لأن دخل فعل لازم، واللازم لا ينصب إلا بالصلة. وقال النووي: معنى الحديث: أن هذا جزاؤه وقد يجازى به وقد يعفو الله عنه، ولا يقطع عليه بدخول النار، وهكذا سبيل كل ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر، ثم إن جوزي وأدخل النار فلا يخلد فيها بل لا بد من خروجه منها بفضل الله تعالى ورحمته.
بيان استنباط الأحكام: وهو على وجوه.
الأول: فيه دليل على تعظيم حرمة الكذب على النبي، عليه الصلاة والسلام، وانه كبيرة. والمشهور: أن فاعله لا يكفر إلا أن يستحله. وحكى إمام الحرمين عن أبيه أبي محمد الجويني من أصحاب الشافعي أنه كان يقول: من كذب على النبي، عليه الصلاة والسلام، متعمدا كفر وأريق دمه. وضعفه إمام الحرمين، وجعله من هفوات والده، وقال النووي: لو كذب في حديث واحد عمدا فسق وردت رواياته كلها. وقال ابن الصلاح: ولا يقبل منه رواية أبدا ولا تقبل توبته منه، بل يتحتم جرحه دائما، على ما ذكره جماعة من العلماء، منهم: أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري وصاحب الشافعي، وأبو بكر الصيرفي من الفقهاء الشافعية، حتى قال الصيرفي: كل من أسقطنا خبره بين أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم
(١٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 143 144 145 146 147 148 149 150 151 152 153 ... » »»