لا يمنع من إقامة الحد فيه، والملتجىء إليه عليه الحد الذي وجب عليه قبل أن يلجأ إليه، وهو مذهب عمرو بن سعيد كما ذكر في الحديث. وحكى القرطبي أن ابن الجوزي حكى الإجماع فيمن جنى في الحرم: انه يقاد منه، وفيمن جنى خارجه ثم لجأ إليه عن أبي حنيفة وأحمد أنه لا يقام عليه. قلت: مذهب مالك والشافعي يقام عليه. ونقل ابن حزم عن جماعة من الصحابة المنع، ثم قال: ولا مخالف لهم من الصحابة، ثم نقل عن جماعة من التابعين موافقتهم، ثم شنع على مالك والشافعي، فقال: قد خالفا في هذا هؤلاء الصحابة والكتاب والسنة، واحتج بعضهم لمذهبهما بقصة ابن خطل. وأجيب عنها بأوجه. أحدها: أنه ارتد وقتل مسلما وكان يهجو النبي، عليه الصلاة والسلام. الثاني: أنه لم يدخل في الأمان فإنه استثناه وأمر بقتله وإن وجد معلقا بأستار الكعبة. الثالث: أنه كان ممن قاتل، وأجاب بعضهم بأنه إنما قتل في تلك الساعة التي أبيحت له، وهو غريب، فإن ساعة الدخول حين استولى عليها وأذعن أهلها، وقتل ابن خطل بعد ذلك، وبعد قوله: (من دخل المسجد فهو آمن)، وقد دخل لكنه استثناه مع جماعة غيره.
السادس: في قوله: (فإن أحد ترخص لقتال رسول الله، عليه الصلاة والسلام) دليل على على أن مكة فتحت عنوة، وهو مذهب الأكثرين. قال القاضي عياض: وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والأوزاعي، لكن من رآها عنوة يقول: إن النبي، عليه الصلاة والسلام، من على أهلها وسوغهم أموالهم ودورهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئا. قال أبو عبيد: ولا يعلم مكة يشبهها شيء من البلاد. وقال الشافعي وغيره: فتحت صلحا، وتأولوا الحديث بأن القتال كان جائزا، له، عليه الصلاة والسلام، لو احتاج إليه، ويضعف هذا التأويل قوله في الحديث: (فإن أحد ترخص لقتال رسول الله، عليه الصلاة والسلام) فإنه يدل على وجود القتل. وقوله: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، وكذلك غيره من الناس المعلق على أشياء مخصوصة، وقال الماوردي: عندي أن أسفل مكة دخله خالد بن الوليد، رضي الله عنه عنوة، وأعلاها دخله الزبير بن العوام، رضي الله عنه، صلحا، ودخلها الشارع من جهته، فصار حكم جهته الأغلب.
السابع: في قوله: (ولا يعضد بها شجرة) دليل على حرمة قطع شجر الحرم، وفي رواية: (ولا يعضد شوكه)، وفي رواية: (ولا يخبط شوكها). قال النووي: اتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لا ينبتها الآدميون في العادة وعلى تحريم خلاها، واختلفوا فيما ينبته الآدميون، وكذلك اختلفوا في ضمان الشجرة إذا قلعها، فقال مالك: يأثم ولا فدية عليه، وقال الشافعي: الواجب في الكبيرة بقرة وفي الصغيرة شاة، وكذا جاء عن ابن عباس وابن الزبير، رضي الله عنهم، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: الواجب في الجميع القيمة، ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعي البهائم في كلأ الحرم، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يجوز، والكلأ والعشب اسم للرطب، والحشيش اسم لليابس منه، والكلأ يطلق عليهما. قوله: (ولا يعضد شوكه) دليل على تحريم قطع الشوك المؤذي وغيره، وقد أخذ به بعضهم عملا بعموم الحديث وقال بعضهم لا يحرم الشوك لأذاه تشبيها بالفواسق الخمس، وخصوا الحديث بالقياس. قال الخطابي: أكثر العلماء على إباحة الشوك، ويشبه أن يكون المحظور منه ما ترعاه الإبل، وهو ما رق منه دون الصلب الذي لا ترعاه، فيكون ذلك كالحطب وغيره. قلت: صحح المتولي، من الشافعية، التحريم مطلقا، والقياس المذكور ضعيف لقيام الفارق وهو أن الفواسق الخمس تقصد الأذى بخلاف الشوك.
الثامن: في قوله: (وليبلغ الشاهد الغائب) صراحة بنقل العلم وإشاعة السنن والاحكام، وهو إجماع.
التاسع: أن الحديث يدل صريحا على تحريم الله مكة، وأبعد من قال: إن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أول من افتتح ذلك، والصواب، أنها محرمة من يوم خلق الله السماوات والأرض.
العاشر: فيه النصيحة لولاة الأمور وعدم الغش لهم والإغلاظ عليهم.
الحادي عشر: فيه ذكر التأكيد في الكلام.
الثاني عشر: فيه تقديم الحمد على المقصود.
الثالث عشر: فيه إثبات القيمة.
الرابع عشر: فيه اختصاص الرسول، عليه الصلاة والسلام، بخصائص.
الخامس عشر: فيه جواز القياس عليه، عليه الصلاة والسلام، لولا العلم بكون الحكم من خصائصه.
السادس عشر: فيه جواز النسخ، إذ نسخ الإباحة للرسول، عليه الصلاة والسلام، بالحرمة.
السابع عشر: فيه جواز المجادلة.
الثامن عشر: فيه مخالفة التابعي للصحابي بالاجتهاد.
التاسع عشر: فيه فضل أبي شريح لاتباعه أمر النبي، عليه الصلاة والسلام، بالتبليغ عنه.
العشرون: فيه وجوب الإنكار من العالم على الأمير إذا رأى أنه غير شيئا من الدين، وإن لم يسأل عنه.
الحادي والعشرون: في قوله: (ووعاه قلبي) دليل على أن العقل محله القلب لا الدماغ، وهو قول الجمهور، لأنه لو كان محله الدماغ لقال: ووعاه