فأمر العبد بما لا سبيل له إليه غير جائز. أجيب: بأنه بمعنى الدعاء أي: بوأه الله كما ذكرنا. ومنها ما قيل: ذلك عام في كل كذب أم خاص؟ أجيب بأنه اختلف فيه، فقيل: معناه الخصوص أي: الكذب في الدين كما ينسب إليه تحريم حلال أو تحليل حرام، وقيل: كان ذلك في رجل بعينه كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم وادعى عند قوم أنه بعثه إليهم ليحكم فيهم، واحتجاج الزبير، رضي الله عنه، ينفي التخصيص، فهو عام في كل كذب ديني ودنيوي. ومنها ما قيل: من قصد الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن في الواقع كذب هل يأثم؟ أجيب: بأنه يأثم، لكن لا بسبب الكذب بل بسبب قصد الكذب، لأن قصد المعصية معصية إذا تجاوز عن درجة الوسوسة، فلا يدخل تحت الحديث. ومنها ما قيل: لم توقف الزبير، رضي الله تعالى عنه، في الرواية والإكثار منها؟ أجيب: لأجل خوف الغلط والنسيان، والغالط والناسي، وإن كان لا إثم عليه، فقد ينسب إلى التفريط لتساهله أو نحوه وقد يتعلق بالناسي حكم الأحكام الشرعية: كغرامات المتلفات، وانتفاض الطهارات. قلت: وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم، فسئلوا، فلم يمكنهم الكتمان، رضي الله تعالى عنهم. ومنها ما قيل: إن قوله (من كذب علي) هل يتناول غير العامد أو المراد منه العامد؟ أجيب: بأنه أعم من العامد وغيره، ولم يقع فيه العمد في رواية البخاري وفي طريق ابن ماجة: (من كذب علي متعمدا)، وكذا وقع للإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة نحو رواية البخاري والاختلاف فيه على شعبة، وقد أخرجه الدارمي من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: (من حدث عني كذبا)، ولم يذكر العمد، فدل ذلك أن المراد منه العموم وقال بعض الحفاظ: المحفوظ في حديث الزبير حذف لفظة: متعمدا، ولذلك جاء في بعض طرقه فقال: ما لي لا أراك تحدث وقد حدث فلان وفلان وابن مسعود؟ فقال: والله يا بني ما فارقته منذ أسلمت، ولكن سمعته يقول: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)، والله ما قال متعمدا وأنتم تقولون. متعمدا. قال أبو الحسن القابسي: لم يذكر في حديث علي والزبير: متعمدا، فمن أجل ذلك هاب بعض من سمع الحديث أن يحدث الناس بما سمع. فإن قلت: إذا كان عاما ينبغي أن يدخل فيه الناسي أيضا. قلت: الحديث بعمومه يتناول العامد والساهي والناسي في إطلاق اسم الكذب عليهم، غير أن الإجماع انعقد على أن الناسي لا إثم عليه، والله أعلم.
108 حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز قال، أنس: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار).
هذا هو الحديث الثالث مما فيه المطابقة للترجمة.
بيان رجاله: وهم أربعة: الأول: أبو معمر، بفتح الميمين: عبد الله بن عمرو المشهور: بالمقعد، المنقري البصري، وقد تقدم. الثاني: عبد الوارث بن سعيد التميمي البصري، وقد تقدم. الثالث: عبد العزيز بن صهيب الأعمى البصري، وقد مر. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله عنه.
بيان لطائف إسناده: منها: أن فيه التحديث والعنعنة. ومنها: أن رواته كلهم بصريون. ومنها: أنه من الرباعيات.
بيان من أخرجه غيره: أخرجه مسلم عن زهير عن أبي علية عن عبد العزيز به. وأخرجه النسائي في العلم أيضا عن عمران بن موسى عن عبد العزيز عنه به. وقول الحميدي صاحب (الجمع بين الصحيحين): إن حديث أنس هذا مما انفرد به مسلم غير صواب.
بيان الإعراب والمعاني: قوله: (إنه) أي: الشان. قوله: (ليمنعني) في محل الرفع على أنه خبر: إن واللام، فيه للتأكيد. قوله: (أن أحدثكم) كلمة: أن، بفتح الهمزة مع التخفيف، وهي مع معمولها في محل النصب على أنها مفعول أو لقوله: ليمنعني لأن: منع، يتعدى إلى مفعولين، و: أن مصدرية تقديره ليمنعني تحديثكم.
وقوله: (أن النبي) صلى الله عليه وسلم أن، هذه المشددة مع اسمها وخبرها في محل الرفع على أنها فاعل: ليمنعني. قوله: (حديثا) نصب على أنه مفعول مطلق، والمراد به جنس الحديث، ولهذا جاز وقوع الكثير صفة له، لا حديث واحد، وإلا يلزم اجتماع الوحدة والكثرة فيه. قوله: (من تعمد...) الخ، مقول القول. قوله: (كذبا) عام في جميع أنواع الكذب، لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي في إفادة العموم. فإن قلت: ما المراد