عمدة القاري - العيني - ج ٢ - الصفحة ١٤٩
نعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك. قال: وذلك فيما افترقت فيه الشهادة والرواية. قال النووي: هذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة مخالف للقواعد، والمختار القطع بصحة توبته من ذلك وقبول روايته بعد صحة التوبة بشروطها، وقد أجمعوا على قبول رواية من كان كافرا ثم أسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة، وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الرواية والشهادة. قلت: قد قيل عن مالك في شاهد الزور: إذا ثبتت عليه شهادة الزور لا تسمع له شهادة بعدها، تاب أم لا. وقد قال أبو حنيفة والشافعي، فيمن ردت شهادته بالفسق ثم تاب وحسنت حالته: لا تقبل منه إعادتها لما يلحقه من التهمة في تصديق نفسه. وقال أبو حنيفة: إذا ردت شهادة أحد الزوجين للآخر ثم تاب لا تسمع للتهمة، فلا يبعد أن يجيء مثله ههنا لأن الرواية كلها كنوع من الشهادة.
الثاني: لا فرق في تحريم الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، بين ما كان في الأحكام وغيره: كالترغيب والترهيب. فكله حرام من أكبر الكبائر بإجماع المسلمين المعتد بهم، خلافا اللكرامية في زعمهم الباطل أنه يجوز الوضع في الترغيب والترهيب، وتابعهم كثير من الجهلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد. ومنهم من زعم أنه جاء في رواية: من كذب علي متعمدا ليضل به، وتمسكوا بهذه الزيادة: أنه كذب له لا عليه، وهذا فاسد ومخالف لإجماع أهل الحل والعقد، وجهل لسان العرب، وخطاب الشرع. فإن كل ذلك كذب عندهم. وأما تعلقهم بهذه الزيادة فقد أجيب عنها بأجوبة: أحدها: أن الزيادة باطلة اتفق الحفاظ على بطلانها. والثاني: قال الإمام الطحاوي: ولو صحت لكانت للتأكيد، كقوله تعالى: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم) * (الأنعام: 144). والثالث: أن اللام في: ليضل، ليست للتعليل، بل لام الصيرورة والعاقبة، والمعنى: على هذا يصير كذبه إلى الضلال به.
الثالث: من روى حديثا وعلم أو ظن أنه موضوع فهو داخل في هذا الوعيد إذا لم يبين حال رواته وضعفهم، ويدل عليه أيضا قوله، عليه الصلاة والسلام: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين). قال النووي: الرواية المشهورة ضم الياء في: يرى، و: الكاذبين، بكسر الياء على الجمع.
الرابع: إذا روى حديثا ضعيفا لا يذكره بصيغة الجزم، نحو: قال أو فعل أو أمر، ونحو ذلك، بل يقول: روي عنه كذا، وجاء عنه كذا، أو يذكر أو يروى أو يحكى، أو يقال أو بلغنا ونحو ذلك، فإن كان صحيحا أو حسنا قال فيه: قال رسول الله، عليه الصلاة والسلام، كذا، أو فعله، ونحو ذلك من صيغ الجزم. وقال القرطبي: استجاز بعض فقهاء العراق نسبة الحكم الذي يدل عليه القياس إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام، نسبة قولية، وحكاية فعلية، فيقول في ذلك: قال رسول الله، عليه الصلاة والسلام، كذا، وكذا. قال: ولذلك ترى كتبهم مشحونة بأحاديث موضوعة تشهد متونها بأنها موضوعة لأنها تشبه فتاوى الفقهاء، ولا يليق بجزالة كلام سيد المرسلين، فهؤلاء شملهم النهي والوعيد.
الخامس: مما يظن دخوله في النهي: اللحن وشبهه، ولهذا قال العلماء رضي الله عنهم: ينبغي للراوي أن يعرف من النحو واللغة والأسماء ما يسلم من قول من لم يقل. قال الأصمعي: أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو، أن يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: (من كذب علي...) الحديث، لأنه عليه السلام لم يكن يلحن، فمهما لحن الراوي فقد كذب عليه. وكان الأوزاعي يعطي كتبه، إذا كان فيها لحن، لمن يصلحها، فإذا صح في روايته كلمة غير مفيدة فله أن يسأل عنها أهل العلم ويرويها على ما يجوز فيه. روي ذلك عن أحمد وغيره، قال أحمد يجتنب إعراب اللحن لأنهم كانوا لا يلحنون. وقال النسائي، فيما حكاه القابسي: إذا كان اللحن شيئا تقوله العرب، وإن كان في لغة قريش، فلا يغير لأنه، عليه السلام، كان يكلم الناس بلسانهم، وإن كان لا يوجد في كلامهم فالشارع لا يلحن. وقال الأوزاعي: كانوا يعربون وإنما اللحن من حملة الحديث فأعربوا الحديث. وقيل للشعبي: أسمع الحديث ليس بإعراب أفأعربه؟ قال: نعم. فإن قلت: لو صح في رواية ما هو خطأ ما حكمه؟ قلت: الجمهور على روايته على الصواب، ولا يغيره في الكتاب، بل يكتب في الحاشية كذا وقع وصوابه كذا. وهو الصواب. وقيل: يغيره ويصلحه. وروي ذلك عن الأوزاعي وابن المبارك وغيرهما وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل. قال: كان أبي إذا مر به لحن فاحش غيره. وإن كان سهلا تركه. وعن أبي زرعة أنه كان يقول: أنا أصلح كتابي من أصحاب الحديث إلى اليوم.
السادس: مما يتعلق بهذا الباب بيان أصناف الواضعين: الأول: قوم زنادقة كالمغيرة بن سعيد الكوفي، ومحمد بن سعيد المصلوب، أرادوا إيقاع الشك في قلوب الناس، فرووا: أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله. الثاني: قوم متعصبون، ومنهم من تعصب لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فوضعوا فيه أحاديث،
(١٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 144 145 146 147 148 149 150 151 152 153 154 ... » »»