عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٩٦
الثاني ما قيل أن هرقل لم خص الأقرب بقوله أيهم أقرب نسبا وأجيب بأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب * الثالث ما قيل لم عدل عن السؤال عن نفس الكذب إلى السؤال عن التهمة وأجيب بأنه لتقريرهم على صدقه لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها * الرابع ما قيل أن أبا سفيان لما قال له هرقل فهل يغدر قال قلت لا فما معنى كلامه بعده ونحن منه في مدة إلى آخره أجيب بأنه لما قطع بعدم غدره لعلمه من أخلاقه الوفاء والصدق أحال الأمر على الزمن المستقبل لكونه مغيبا وأورده على التردد ومع هذا كان يعلم أن صدقه ووفاءه ثابت مستمر ولهذا لم يقدح هرقل على هذا القدر منه * الخامس ما قيل ما وجه قول أبي سفيان الحرب بيننا وبينه سجال أجيب بأنه أشار بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد وقد صرح بذلك أبو سفيان يوم أحد في قوله يوم بيوم بدر والحرب سجال * السادس ما قيل كيف خصص أبو سفيان الأربعة المذكورة بالذكر وهي الصلاة والصدق والعفاف والصلة وأجيب للإشارة إلى تمام مكارم الأخلاق وكمال أنواع فضائله لأن الفضيلة إما قولية وهي الصدق وإما فعلية وهي إما بالنسبة إلى الله تعالى وهي الصلاة لأنه تعظيم الله تعالى وإما بالنسبة إلى نفسه وهي العفة وإما بالنسبة إلى غيره وهي الصلة ولما كان مبنى هذه الأمور الصدق وصحتها موقوفة على التوحيد وترك الإشراك بالله تعالى أشار إليه بقوله أولا يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأشار بهذا القسم إلى التخلي عن الرذائل وبالقسم الأول إلى التحلي بالفضائل ويؤول حاصل الكلام إلى أنه ينهانا عن النقائص ويأمرنا بالكمالات فافهم * السابع ما قيل لا تشركوا كيف يكون مأمورا به والعدم لا يؤمر به إذ لا تكليف إلا بفعل لا سيما في الأوامر وأجيب بأن المراد به التوحيد * الثامن ما قيل لا تشركوا نهى فما معنى ذلك إذ لا يقال له أمر وأجيب بأن الإشراك منهي عنه وعدم الإشراك مأمور به مع أن كل نهي عن شيء أمر بضده وكل أمر بشيء نهي عن ضده. قلت هذا الموضع فيه تفصيل لا نزاع في أن الأمر بالشيء نهي عن ترك ذلك الشيء بالتضمن نهي تحريم إن كان الأمر للوجوب ونهي كراهة إن كان للندب فإذا قال صم يلزمه أن لا يترك الصوم وإنما النزاع في أن الأمر هل هو نهي عن ضده الوجودي مثلا قولك اسكن عين قولك لا تتحرك بمعنى أن المعنى الذي عبر عنه بأسكن عين ما عبر عنه بلا تتحرك فتكون عبارتان لإفادة معنى واحد أم لا فيه النزاع لا في أن صيغة أسكن عين صيغة لا تتحرك فإنه ظاهر الفساد لم يذهب إليه أحد. فذهب بعض الشافعية والقاضي أبو بكر أولا أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده بالمعنى المذكور. وقال القاضي آخرا وكثير من الشافعية وبعض المعتزلة أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده لا أنه عينه إذ اللازم غير الملزوم. وذهب إمام الحرمين والغزالي وباقي المعتزلة إلى أنه لا حكم لكل واحد منهما في ضده أصلا بل هو مسكوت عنه. ومنهم من اقتصر فقال الأمر بالشيء عين النهي عن ضده أو يستلزمه ولم يتجاوز ومنهم من تجاوز إلى الجانب الآخر وقال النهي عن الشيء عين الأمر بضده أو يستلزمه. وقال أبو بكر الجصاص وهو مذهب عامة العلماء الحنفية وأصحاب الشافعي وأهل الحديث أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان له ضد واحد كالأمر بالإيمان نهي عن الكفر وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام له أضداد من القعود والركوع والسجود والاضطجاع يكون الأمر به نهيا عن جميع أضداده كلها وقال بعضهم يكون نهيا عن واحد منها من غير عين وفصل بعضهم بين الأمر بالإيجاب والأمر بالندب فقال أمر الإيجاب يكون نهيا عن ضد المأمور به وعن أضداده لكونها مانعة من قبل الموجب وأمر الندب لا يكون كذلك فكانت أضداد المندوب غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه ومن لم يفصل جعل أمر الندب نهيا عن ضده نهي ندب حتى يكون الامتناع عن ضد المندوب مندوبا كما يكون فعله مندوبا وأما النهي عن الشيء فأمر بضده إن كان له ضد واحد باتفاقهم كالنهي عن الكفر أمر بالإيمان وإن كان له أضداد فعند بعض الحنفية وبعض أصحاب الحديث يكون أمرا بالأضداد كلها كما في جانب الأمر وعند عامة الحنفية وعامة أصحاب الحديث يكون أمرا بواحد من الأضداد غير عين. وذهب بعضهم إلى أنه يوجب حرمة ضده وقال بعضهم يدل على حرمة ضده وقال بعض الفقهاء يدل على كراهة ضده وقال بعضهم يوجب كراهة ضده. ومختار القاضي أبي زيد وشمس الأئمة وفخر الإسلام ومن تابعهم أنه يقتضي كراهة ضده
(٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 ... » »»