عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٩٥
وهو إشارة إلى ما ذكر من الأمور فإن صحت الرواية بالرفع فوجهه أن يكون اسم كان وخبره ذلك مقدما (بيان المعاني والبيان) قوله الحرب بيننا وبينه سجال هذا تشبيه بليغ شبه الحرب بالسجال مع حذف أداة التشبيه لقصد المبالغة كما في قولك زيد أسد إذا أردت به المبالغة في بيان شجاعته فصار كأنه عين الأسد ولهذا حمل الأسد عليه وذكر السجال وأراد به النوب يعني الحرب بيننا وبينه نوب نوبة لنا ونوبة له كالمستقيين إذا كان بينهما دلوان يستقى أحدهما. دلوا والآخر دلوا هذا إذا أريد من السجال الدلاء لأنه جمع سجل بالفتح وهو الدلو العظيم وأن أريد به المصدر كالمساجلة وهي المفاخرة وهي أن يصنع أحدهما ما يصنع الآخر لا يكون من هذا الباب فافهم. قوله ولا تشركوا به أي بالله وهذه الجملة عطف على قوله اعبدوا الله وحده من عطف المنفي على المثبت وهو في الحقيقة عطف الخاص على العام من قبيل * (تنزل الملائكة والروح) * فإن عبادة الله أعم من عدم الإشراك به وفي رواية لا تشركوا به بدون الواو فتكون الجملة الثانية في حكم التأكيد لأن بين الجملتين كمال الاتصال فتكون الثانية مؤكدة للأولى ومنزلة منها منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في اللفظ قوله واتركوا ما تقول آباؤكم حذف المفعول منه ليدل على العموم أعني عموم قوله ما كانوا عليه في الجاهلية وفي ذكر الآباء تنبيه على أنهم هم القدوة في مخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وهم عبدة الأوثان والنصارى واليهود قوله حين يخالط بشاشته القلوب مخالطة بشاشة الإيمان القلوب كناية عن انشراح الصدر والفرح به والسرور قوله فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله فيه من فن المشاكلة والمطابقة وذلك لأن في كلام هرقل سألتك بما يأمركم فكذلك في حكايته عن كلام أبي سفيان قال فذكرت أنه يأمركم بطريق المشاكلة وأبو سفيان في جوابه إياه فيما مضى لم يقل إلا قلت يقول اعبدوا الله فعدل ههنا عنه إلى قوله فذكرت أنه يأمركم وقال الكرماني في جواب هذا أن هرقل إنما غير عبارته تعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم وتأدبا له قوله أسلم تسلم فيه جناس اشتقاقي وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد قوله فإن توليت أي أعرضت وحقيقة التولي إنما هو بالوجه ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء قلت هذا استعارة تبعية وقد علم أن الاستعارة على قسمين أصلية وتبعية وذلك باعتبار اللفظ لأنه إن كان اسم جنس سواء كان عينا أو معنى فالاستعارة أصلية كأسد وفيل وإن كان غير اسم جنس فالاستعارة تبعية وجه كونها تبعية أن الاستعارة تعتمد التشبيه والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا والأمور الثلاثة عن الموصوفية بمعزل فتقع الاستعارة أولا في المصادر ومتعلقات معاني الحروف ثم تسري في الأفعال والصفات والحروف قوله وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل قال الكرماني ولفظ الصاحب هنا بالنسبة إلى هرقل حقيقة وبالنسبة إلى إيلياء مجاز إذ المراد منه الحاكم فيه وإرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ واحد باستعمال واحد جائز عند الشافعي وأما عند غيره فهو مجاز بالنسبة إلى المعنيين باعتبار معنى شامل لهما ومثله يسمى بعموم المجاز قلت لا نسلم اجتماع الحقيقة والمجاز ههنا لأن فيه حذفا تقديره وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وصاحب هرقل ففي الأول مجاز وفي الثاني حقيقة فلا جمع ههنا وارتكاب الحذف أولى من ارتكاب المجاز فضلا عن الجمع بين الحقيقة والمجاز الذي هو كالمستحيل على ما عرف في موضعه قوله من هذه الأمة أي من أهل هذا العصر وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز والأمة في اللغة الجماعة قال الأخفش هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع وكل جنس من الحيوان أمة وفي الحديث لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها والمراد من قوله ملك هذه الأمة قد ظهر العرب خاصة قوله فحاصوا حيصة حمر الوحش أي كحيصة حمر الوحش شبه نفرتهم وجهلهم مما قال لهم هرقل وأشار إليهم من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بنفرة حمر الوحش لأنها أشد نفرة من سائر الحيوانات ويضرب المثل بشدة نفرتها. وقال بعضهم شبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل في عدم الفطنة بل هم أضل. قلت هذا كلام من لا وقوف له في علمي المعاني والبيان ولا يخفى وجه التشبيه ههنا على من له أدنى ذوق في العلوم (الأسئلة والأجوبة) الأول ما قيل أن قصة أبي سفيان مع هرقل إنما كانت في أواخر عهد البعثة فما مناسبة ذكرها لما ترجم عليه الباب وهو كيفية بدء الوحي وأجيب بأن كيفية بدء الوحي تعلم من جميع ما في الباب وهو ظاهر لا يخفى *
(٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 ... » »»