رواية شعبة عنه وبين روايات جرير ووكيع وعيسى بن يونس اختلاف، والتوفيق بينهما أن يجعل إحداهما مبينة للأخرى، فيكون المعنى: لما شق عليهم أنزل الله تعالى * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم المطلق في إحداهما يراد به المقيد في الأخرى، وهو الشرك. فالصحابة، رضي الله عنهم، حملوا اللفظ على عمومه، فشق عليهم إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كما ظننتم، بل كما قال لقمان عليه السلام. فإن قلت: من أين حملوه على العموم؟ قلت: لأن قوله: (بظلم) نكرة في سياق النفي، فاقتضت التعميم. فإن قلت: من أين لزم أن من لبس الإيمان بظلم لا يكون آمنا ولا مهتديا حتى شق عليهم؟ قلت: من تقديم: لهم، على الأمن، في قوله: * (أولئك لهم الأمن) * (الأنعام: 82) أي: لهم الأمن لا لغيرهم، ومن تقديم * (وهم) * على * (مهتدون) * (الأنعام: 82) في قوله: * (وهم مهتدون) * (الأنعام: 82) وقال الزمخشري في: * (كلمة هو قائلها) * (المؤمنون: 100) إنه: للتخصيص، أي: هو قائلها لا غيره. فإن قلت: لا يلزم من قوله تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) إن غير الشرك لا يكون ظلما. قلت: التنوين في: بظلم، للتعظيم، فكأنه قال: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم، فلما تبين أن الشرك ظلم عظيم، علم أن المراد: لم يلبسوا إيمانهم بشرك، وقد ورد ذلك صريحا عند البخاري من طريق حفص بن غياث عن الأعمش، ولفظ: (قلنا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان)؟ فذكر الآية. فإن قلت: لم ينحصر الظلم العظيم على الشرك؟ قلت: عظمة هذا الظلم معلومة بنص الشارع، وعظمة غيره غير معلومة، والأصل عدمها.
بيان استنباط الأحكام: الأول: إن العام يطلق ويراد به الخاص، بخلاف قول أهل الظاهر، فحمل الصحابة ذلك على جميع أنواع الظلم، فبين الله تعالى أن المراد نوع منه، وحكى الماوردي في الظلم في الآية قولين. أحدهما: أن المراد منه الشرك، وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود عملا بهذا الحديث. قال: واختلفوا على الثاني، فقيل: إنها عامة، ويؤيده ما وراه عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي (أن رجلا سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت حتى جاء رجل فأسلم، فلم يلبث قليلا حتى استشهد. فقال، عليه السلام: هذا منهم، من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم). وقيل: إنها خاصة نزلت في إبراهيم، عليه السلام، وليس في هذه الآية فيها شيء، قاله علي، رضي الله عنه. وقيل: إنها فيمن هاجر إلى المدينة. قاله عكرمة. قلت: جعل صاحب (الكشاف) هذه الآية جوابا عن السؤال، أعني قوله: * (فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون) * (الأنعام: 81) وأراد بالفريقين فريقي المشركين والموحدين، وفسر الشرك بالمعصية. فقال: أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، ثم قال: وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس، وهذا لا يمشي إلا على قول من قال: إنها خاصة نزلت في إبراهيم. الثاني: إن المفسر يقضي على المجمل. الثالث: إثبات العموم. الرابع: عموم النكرة في سياق النفي لفهم الصحابة وتقرير الشارع عليه وبيانه لهم التخصيص، وأنكر القاضي العموم، فقال: حملوه على أظهر معانيه، فإنه وإن كان يطلق على الكفر وغيره لغة وشرعا، فعرف الاستعمال فيه العدول عن الحق في غير الكفر، كما أن لفظ الكفر يطلق على معان من: جحد النعم والستر، لكن الغالب عند مجرد الإطلاق حمله على ضد الإيمان، فلما ورد لفظ الظلم من غير قرينة حمله الصحابة على أظهر وجوهه، فليس فيه دلالة العموم. قلت: يرد هذا ما ذكرناه من أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، ورواية البخاري أيضا. الخامس: استنبط منه المازري والنووي وغيرهما تأخير البيان إلى وقت الحاجة وقال القاضي عياض في الرد على ذلك بأنه ليس في هذه القضية تكليف عمل، بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر، واعتقاد بتصديق لازم لأول وروده، فما هي الحاجة المؤخرة إلى البيان؟ لكنهم لما أشفقوا بين لهم المراد. وقال بعضهم: ويمكن أن يقال: المعتقد أيضا يحتاج إلى البيان فما انتفت الحاجة، والحق أن في القضية تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر. قلت: لو فهم هذا القائل كلام القاضي لما استدرك عليه بما قاله، فالقاضي يقول: اعتقاد التصديق لازم... الخ، فالذي يفهم هذا الكلام كيف يقول: فما انتفت الحاجة. وقوله: والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب، ليس بحق، لأن الآية ليس فيها خطاب، والخطاب من باب الإنشاء، والآية إخبار. على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب ممتنع عند جماعة. وقيد الكرخي جوازه في المجمل على ما عرف