بيان لطائف إسناده: منها: أن فيه التحديث بصورة الجمع وصورة الإفراد والعنعنة. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين الكوفيين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش وإبراهيم وعلقمة، وهذا الإسناد أحد ما قيل فيه إنه أصح الأسانيد. ومنها: أن رواته كلهم حفاظ أئمة أجلاء. ومنها: أن في بعض النسخ قبل قوله: (وحدثني بشر) صورة: ح، أشار إلى التحويل حائلا بين الإسنادين، فهذا إن كان من المصنف، فهي تدل على التحويل قطعا، وإن كان من بعض الرواة قد زادها فيحتمل وجهين: أحدهما، أن تكون مهملة دالة على التحويل كما ذكرناه، والآخر: أن تكون معجمة دالة على البخاري بطريق الرمز، أي: قال البخاري: وحدثني بشر، والرواية الصحيحة بواو العطف. فافهم.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في أحاديث الأنبياء، عليهم السلام، عن أبي الوليد عن شعبة، وعن بشر بن خالد عن غندر عن شعبة، وفي التفسير عن بندار عن ابن عدي عن شعبة، وفي أحاديث الأنبياء، عليهم السلام، عن ابن حفص بن غياث عن أبيه، وعن إسحاق عن عيسى بن يونس، وفي التفسير واستتابة المرتدين عن قتيبة عن جرير. وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر عن ابن إدريس، وأبي معاوية ووكيع، وعن إسحاق وابن خشرم عن عيسى، وعن منجاب عن علي بن مسهر، وعن أبي كريب عن ابن إدريس كلهم عن الأعمش عن إبراهيم به، وفي بعض طرق البخاري: لما نزلت الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا: أينا لم يلبس إيمانا بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس كذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) وأخرجه الترمذي أيضا.
بيان اللغات والإعراب: قوله: (لم يلبسوا) من باب: لبست الأمر ألبسه، بالفتح في الماضي، والكسر في المستقبل، إذا خلطته؛ وفي: لبس الثوب بضده يعني، بالكسر في الماضي، والفتح في المستقبل. والمصدر من الأول: لبس، بفتح اللام، ومن الثاني: لبس بالضم. وفي (العباب): قال الله تعالى: * (وللبسنا عليهم ما يلبسون) * (الأنعام: 9) أي شبهنا عليهم وأضللناهم كما ضلوا، قال ابن عرفة في قوله تعالى: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل) * (البقرة: 42) أي: لا تخلطوه به، وقوله تعالى: * (أويلبسكم شيعا) * (الأنعام: 65) أي يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق. وقوله جل ذكره: * (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * (الأنعام: 82) أي: لم يخلطوه بشرك، قال العجاج:
* ويفصلون اللبس بعد اللبس * من الأمور الربس بعد الربس * واللبس أيضا: اختلاط الظلام، وفي الأمر لبسة، بالضم، أي: شبهة وليس بواضح. قوله: (بظلم)، الظلم في أصل الوضع: وضع الشيء في غير موضعه، يقال: ظلمه يظلمه ظلما ومظلمة والظلامة والظليمة والمظلمة: ما تطلبه عند المظالم، وهو اسم ما أخذ منك. وتظلمني فلان أي: ظلمني مالي. قوله: (لما)، بمعنى:
حين، وقوله: (قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) جوابه. قوله: (نزلت): فعل وفاعله، قوله: (* (الذين آمنوا) * (الأنعام: 82)) الآية، والتأنيث باعتبار الآية، والتقدير: لما نزلت هذه الآية: (* (الذين آمنوا) * (الأنعام: 82)) إلى آخرها. قوله: (أينا)، كلام إضافي مبتدأ، وقوله: (لم يظلم) خبره، والجملة مقول القول، قوله: (فأنزل الله) عطف على: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفاء معناها التعقيب، وقد تكون بمعنى: ثم، يعني للتراخي، والذي تقتضيه الحال أنها ههنا على أصلها.
بيان المعاني: قوله: (أينا لم يظلم)، وفي بعض النسخ: (أينا لم يظلم نفسه)، بزيادة: نفسه، والمعنى: إن الصحابة فهموا الظلم على الإطلاق، فشق عليهم ذلك، فبين الله تعالى أن المراد الظلم المقيد، وهو الظلم الذي لا ظلم بعده. وقال الخطابي: إنما شق عليهم لأن ظاهر الظلم الافتيات بحقوق الناس، والافتيات السبق إلى الشيء، وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي، فظنوا أن المراد ههنا معناه الظاهر، فأنزل الله تعالى الآية. ومن جعل العبادة وأثبت الربوبية لغير الله تعالى فهو ظالم، بل أظلم الظالمين. وقال التيمي: معنى الآية: لم يفسدوا إيمانهم ويبطلوه بكفر، لأن الخلط بينهما لا يتصور، أي: لم يخلطوا صفة الكفر بصفة الإيمان فتحصل لهم صفتان إيمان متقدم وكفر متأخر بأن كفروا بعد إيمانهم، ويجوز أن يكون معناه: ينافقوا فيجمعوا بينهما ظاهرا وباطنا، وإن كانا لا يجتمعان. قلت: اختلفت ألفاظ الحديث في هذا، ففي رواية جرير عن الأعمش: (فقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس كذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان)؟ وفي رواية وكيع عنه: (فقال ليس كما تظنون). وفي رواية عيسى بن يونس عنه: (إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان؟) وفي رواية شعبة عنه ما مضى ذكره ههنا، فبين