عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٢١٧
في موضعه. السادس: أن المعاصي لا تكون كفرا، وهو مذهب أهل الحق، وأن الظلم مختلف في ذاته كما عليه ترجمته. السابع: احتج به من قال: الكلام حكمه العموم حتى يأتي دليل الخصوص. الثامن: أن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة تقتضي ذلك، فافهم.
24 ((باب علامات المنافق)) الكلام فيه من وجوه. الأول: وجه المناسبة بين البابين أن الباب الأول مترجم على أن الظلم في ذاته مختلف وله أنواع، وهذا الباب أيضا مشتمل على بيان أنواع النفاق، وأيضا فالنفاق نوع من أنواع الظلم، ولما قال في الباب الأول: ظلم دون ظلم، عقبه ببيان نوع منه. وقوله الكرماني: وأما مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان أن يبين أن هذه علامة عدم الإيمان، أو يعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض ليس بمناسب، بل المناسب ذكر المناسبة بين كل بابين متواليين، فذكر المناسبة بين بابين بينهما أبواب غير مناسب. وقال النووي: مراد البخاري بذكر هذا هنا أن المعاصي تنقص الإيمان، كما أن الطاعة تزيده. قلت: هذا أيضا غير موجه في ذكر المناسبة على ما لا يخفى. الثاني: إن لفظ باب معرب لأنه خبر مبتدأ محذوف، وهو مضاف إلى ما بعده تقديره: هذا باب في بيان علامات المنافق. والعلامات جمع علامة، وهي التي يستدل بها على الشيء، ومنه سمي الجبل: علامة وعلما أيضا. فإن قلت: كان المناسب أن يقول: باب آيات المنافق، مطابقة للفظ الحديث. قلت: لعله نبه بذلك على ما جاء في رواية أخرجها أبو عوانة في صحيحه بلفظ: (علامات المنافق). الثالث: لفظ المنافق من النفاق، وزعم ابن سيده أنه الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من آخر، مشتق من نافقاء اليربوع، فإن إحدى جحريه يقال لها النافقاء، وهو موضع يرققه بحيث إذا ضرب رأسه عليها ينشق، وهو يكتمها ويظهر غيرها، فإذا أتى الصائد إليه من قبل القاصعاء، وهو جحره الظاهر الذي يقصع فيه، أي: يدخل، ضرب النافقاء برأسه فانتفق، أي: خرج، فكما أن اليربوع يكتم النافقاء ويظهر القاصعاء، كذلك المنافق يكتم الكفر ويظهر الإيمان، أو يدخل في الشرع من باب ويخرج من آخر؛ ويناسبه من وجه آخر وهو أن النافقاء ظاهره يرى كالأرض، وباطنه الحفرة فيها، فكذا المنافق. وقال القزاز: يقال: نافق اليربوع ينافق فهو منافق إذا فعل ذلك، وكذلك نفق ينفق فهو منافق من هذا، وقيل: المنافق مأخوذ من النفق وهو: السرب تحت الأرض يراد أنه يستتر بالإسلام كما يستتر صاحب النفق فيه؛ وجمع النفق أنفاق. وقال ابن سيده: النافقاء والنفقة جحر الضب واليربوع، والحاصل أن المنافق هو المظهر لما يبطن خلافه. وفي الاصطلاح: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك، وتتفاوت مراتبه. قلت: هذا التفسير تفسير الزنديق اليوم، ولهذا قال القرطبي عن مالك: إن النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة اليوم عندنا. فإن قيل: المنافق من باب المفاعلة، وأصلها أن تكون لاثنين. أجيب: بأن ما جاء على هذا عندهم لأنه بمنزلة خادع وراوغ، وقيل: بل لأنه يقابل بقبول الإسلام منه، فإن علم أنه منافق فقد صار الفعل من اثنين، وسمي الثاني باسم الأول مجازا للازدواج، كقوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) * (البقرة: 194) واعلم أن حقيقة النفاق لا تعلم إلا بتقسيم نذكره، وهو: إن أحوال القلب أربعة، وهي: الاعتقاد المطلق عن الدليل وهو: العلم. والاعتقاد المطلق لا عن الدليل وهو: اعتقاد المقلد. والاعتقاد الغير المطابق وهو: الجهل. وخلو القلب عن ذلك، فهذه أربعة أقسام، وأما أحوال اللسان فثلاثة: الإقرار والإنكار والسكوت، فيحصل من ذلك اثنا عشر قسما. الأول: ما إذا حصل العرفان بالقلب والإقرار باللسان، فهذا الإقرار إن كان اختباريا فصاحبه مؤمن حقا، وإن كان اضطراريا فهو كافر في الظاهر. الثاني: أن يحصل العرفان القلبي والإنكار اللساني، فهذا الإنكار إن كان اضطراريا فصاحبه مسلم، وإن كان اختياريا كان كافرا معاندا. الثالث: أن يحصل العرفان القلبي، ويكون اللسان خاليا عن الإنكار والإقرار، فهذا السكوت إما أن يكون اضطراريا أو اختياريا، فإن كان اضطراريا فهو مسلم حقا. ومنه ما إذا عرف الله تعالى بدليله، ثم لما تمم النظر مات فجأة، فهذا مؤمن قطعا؛ وإن كان اختياريا فهو كمن عرف الله بدليله ثم إنه لم يأت بالإقرار، فقال الغزالي: إنه مؤمن. الرابع: اعتقاد المقلد لا يخلو معه
(٢١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 212 213 214 215 216 217 218 219 220 221 222 ... » »»