السقوط، فيكون التقدير الآية إذا حدث كذب، ولكن قوله: لا يصح غير صحيح، إما أولا: فلأن كون المبدل منه في حكم السقوط ليس على الإطلاق، وإما ثانيا: فلأن تقديره بقوله الآية: إذا حدث كذب ليس بتقدير صحيح، بل التقدير على تقدير البدل: آية المنافق وقت تحديثه بالكذب، ووقت إخلافه بالوعد، ووقت خيانته بالأمانة. والمبدل منه هو لفظ: ثلاث، لا لفظ: المنافق. فافهم.
بيان المعاني: فيه ذكر: إذا في الجمل الثلاث الدالة على تحقق الوقوع، تنبيها على أن هذه عادة المنافق. وقال الخطابي: كلمة إذا تقتضي تكرار الفعل، وفيه نظر. وفيه: حذف المفاعيل الثلاثة من الأفعال الثلاثة تنبيها على العموم. وفيه: عطف الخاص على العام، لأن الوعد نوع من التحديث، وكان داخلا في قوله: (إذا حدث)، ولكنه أفرده بالذكر معطوفا تنبيها على زيادة قبحه على سبيل الادعاء، كما في عطف جبريل، عليه السلام، على الملائكة مع كونه داخلا فيهم، تنبيها على زيادة شرفه. لا يقال: الخاص إذا عطف على العام لا يخرج من تحت العام فحينئذ تكون الآية اثنتين لا ثلاثا، لأنا نقول: لازم الوعد الذي هو الإخلاف الذي قد يكون فعلا، ولازم التحديث الذي هو الكذب الذي لا يكون فعلا متغايران، فبهذا الاعتبار كان الملزومان متغايرين فافهم. وفيه: الحصر بالعدد، فإن قلت: يعارضه الحديث الآخر الذي فيه لفظ أربع! قلت: لا يعارضه أصلا، لأن معنى قوله: (وإذا عاهد غدر). معنى قوله: (وإذا اؤتمن خان)، لأن الغدر خيانة فيما اؤتمن عليه من عهده. وقال النووي: لا منافاة بين الروايتين من ثلاث خصال كما في الحديث الأول، أو: أربع خصال، كما في الحديث الآخر، لأن الشيء الواحد قد يكون له علامات كل واحدة منها يحصل بها صفة، قد تكون تلك العلامة شيئا واحدا، وقد تكون أشياء وروى أبو أمامة موقوفا: (وإذا غنم غل، وإذا أمر عصى، وإذا لقي جبن). وقال الطيبي: لا منافاة، لأن الشيء الواحد قد يكون له علامات، فتارة يذكر بعضها، وأخرى جميعها أو أكثرها. وقال القرطبي: يحتمل أن النبي، عليه السلام، استجد له من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. قلت: الأولى أن يقال: إن التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد والناقص، وقال بعضهم: ليس بين الحديثين تعارض لأنه لا يلزم من عد الخصلة كونها علامة، على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على عدم إرادة الحصر، فإن لفظه: (من علامة المنافق ثلاث). وكذا أخرج الطبراني في (الأوسط) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه. وإذا حمل اللفظ الأول على هذا لم يرد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت، وببعضها في وقت آخر. قلت: ولا فرق بين الخصلة والعلامة، لأن كلا منهما يستدل به على الشيء، وكيف ينفي هذا القائل الملازمة الظاهرة وقوله: على أن في رواية مسلم إلخ ليس بجواب طائل؟ بل المعارضة ظاهرة بين الروايتين، ودفعها بما ذكرناه وحمل اللفظ الأول على هذا لا يصح من جهة التركيب، فافهم.
بيان استنباط الأحكام: استنبط من هذه العلامات الثلاث صفة المنافق وجه الانحصار على الثلاث، هو: التنبيه على فساد القول والفعل والنية. فبقوله: (إذا حدث كذب) نبه على فساد القول، وبقوله: (إذا اؤتمن خان) نبه على فساد الفعل، وبقوله: (إذا وعد أخلف) نبه على فساد النية، لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا عزم عليه مقارنا بوعده، أما إذا كان عازما ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم توجد فيه صفة النفاق، ويشهد لذلك ما رواه الطبراني بإسناد لا بأس به في حديث طويل من حديث سلمان، رضي الله عنه: (إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف). وكذا قال في باقي الخصال. وقال العلماء: يستحب الوفاء بالوعد بالهبة وغيرها استحبابا مؤكدا، ويكره إخلافه كراهة تنزيه لا تحريم، ويستحب أن يعقب الوعد بالمشيئة ليخرج عن صورة الكذب، ويستحب إخلاف الوعيد إذا كان التوعد به جائزا، ولا يترتب على تركه مفسدة. واعلم أن جماعة من العلماء عدوا هذا الحديث من المشكلات من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المصدق بقلبه ولسانه، مع أن الإجماع حاصل أنه لا يحكم بكفره، ولا بنفاق يجعله في الدرك الأسفل من النار. قلت: ذكروا فيه أوجها. الأول: ما قاله النووي: ليس في الحديث إشكال؛ إذ معناه أن هذه الخصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافق في هذه، ومتخلق بأخلاقهم، إذ النفاق إظهار ما يبطن خلافه، وهوموجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه خاصا في حق من حدثه ووعده وائتمنه، لا أنه منافق في الإسلام مبطن للكفر. الثاني: ما قاله بعضهم: هذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، وأما من نذر