والاتيان بها عنده، واستدل على ذلك بما في حديث أبي ذر من قوله عليه السلام: (إنك امرؤ فيك جاهلية) وبقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * (النساء: 48 و 116) الآية. أما وجه الاستدلال بما في الحديث فهو أنه قال له: فيك جاهلية يعني: أنك في تعيير أمه على خلق من أخلاق الجاهلية ولست جاهلا محضا، وكان أبو ذر قد عير الرجل بأمه، على ما يجيء بيانه عن قريب، إن شاء الله تعالى، وهو نوع من المعصية. ولو كان مرتكب المعصية يكفر لبين النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر، ولم يكتف بقوله في الإنكار عليه: (إنك امرؤ فيك جاهلية). وأما الاستدلال بالآية فظاهر صريح، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة. وأما عند الخوارج: فالكبيرة موجبة للكفر، وعند المعتزلة موجبة للمنزلة بين المنزلتين صاحبها لا مؤمن ولا كافر. وقال الكرماني: فإن قلت: المفهوم من الآية أن مرتكب الشرك لا يغفر له لا أنه يكفر، والترجمة إنما هي في الكفر لا في الغفر. قلت: الكفر وعدم الغفر عندنا متلازمان؛ نعم، عند المعتزلة صاحب الكبيرة الذي لم يتب منها غير مغفور له، بل يخلد في النار. في الكلام لف ونشر، ومذهب أهل الحق على أن من مات موحدا لا يخلد في النار وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما ارتكب، وقد جاءت به الأحاديث الصحيحة، منها قوله عليه السلام: (وإن زنى وإن سرق)، والمراد بهذه الآية: من مات على الذنوب من غير توبة، ولو كان المراد: من تاب قبل الموت، لم يكن للتفرقة بين الشرك وغيره معنى، إذ التائب من الشرك قبل الموت مغفور له، ويقال: المراد بالشرك في هذه الآية الكفر، لأن من جحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مثلا كان كافرا ولو لم يجعل مع الله، إلاها آخر، والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف، وقد يرد الشرك ويراد به ما هو أخص من الكفر، كما في قوله تعالى: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * (البينة: 1) قوله: (إلا بالشرك)، أي: إلا بارتكاب الشرك، حتى يصح الاستثناء من الارتكاب. وقال النووي: قال بارتكابها احترازا من اعتقادها، لأنه لو اعتقد حل بعض المحرمات المعلومة من الدين ضرورة كالخمر كفر بلا خلاف. الخامس: سبب نزول الآية قضية الوحشي قاتل حمزة، رضي الله عنه، على ما روي عن ابن عباس، قال: أتى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد كنت أحب أن أراك على غير جوار، فأما إذا أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله. قال: فإني أشركت بالله، وقتلت النفس التي حرم الله، وزنيت فهل يقبل الله تعالى مني توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزلت: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق) * (الفرقان: 68) إلى آخر الآية فتلاها عليه، فقال: أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48 و 116) فدعا به فتلاها عليه فقال: لعلي ممن لا يشاء الله؟ أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) * (الزمر: 53) فقال: نعم الآن لا أرى شرطا، فأسلم).
30 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن واصل الأحدب عن المعرور قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم.
.
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن التبويب على جزء منه، وقال ابن بطال: غرض البخاري من الحديث الرد على الخوارج في قولهم: المذنب من المؤمنين مخلد في النار، كما دلت عليه الآية * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48 و 116) والمراد به: من مات على الذنوب، كما ذكرنا. وقال الكرماني: وفي ثبوت غرض البخاري منه الرد عليهم دغدغة، إذ لا نزاع لهم في أن الصغيرة لا يكفر صاحبها، والتعيير بنحو: يا ابن السوداء، صغيرة. قلت: يشير الكرماني بكلامه هذا إلى عدم