عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ١٣٢
كالمسافر بمعنى السافر، والمنازع بمعنى النازع، لأن باب: فاعل، قد يأتي بمعنى فعل.
(بيان الإعراب): قوله: (المسلم) مبتدأ وخبره، قوله: (من سلم المسلمون)، ويجوز أن يكون: من سلم خبر مبتدأ محذوف، فالجملة خبر المبتدأ الأول، والتقدير: المسلم هو من سلم، فمن موصولة، وسلم المسلمون صلتها، وقوله: (من لسانه) متعلق بقوله: (سلم). قوله: (والمهاجر) عطف على قوله: (المسلم). ومن أيضا في: (من هجر) موصولة. و: (ما نهى الله عنه) جملة في محل النصب لأنها مفعول هجر، وكلمة: ما، موصولة، ونهى الله عنها، صلتها.
(بيان المعاني): قوله: (المسلم من سلم) إلى آخره ظاهره يدل على الحصر لوقوع جزئي الجملة معرفتين، ولكن هذا من قبيل قولهم: زيد الرجل، أي: زيد الكامل في الرجولية، فيكون التقدير: المسلم الكامل من سلم إلى آخره. وقال القاضي عياض وغيره: المراد: الكامل الإسلام والجامع لخصاله ما لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل، وهذا من جامع كلامه عليه الصلاة والسلام، وفصيحه كما يقال: المال الإبل، والناس العرب، على التفضيل لا على الحصر، وقد بين البخاري ما يبين هذا التأويل، وهو قول السائل: أي الإسلام خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. وقال الخطابي: معناه أن المسلم الممدوح من كان هذا وصفه، وليس ذلك على معنى أن من لم يسلم الناس منه ممن دخل في عقد الإسلام فليس ذلك بمسلم، وكان ذلك خارجا عن الملة أيضا، إنما هو كقولك: الناس العرب، تريد أن أفضل الناس العرب، فههنا المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله أداء حقوق المسلمين والكف عن أعراضهم، وكذلك المهاجر الممدوح هو الذي جمع إلى هجران وطنه ما حرم الله تعالى عليه، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم. قلت: وكذا إثبات اسم الشيء على الشيء على معنى إثبات الكمال مستفيض في كلامهم. فإن قلت: إذا كان التقدير: المسلم الكامل من سلم، يلزم من ذلك أن يكون من اتصف بهذا خاصة كاملا. قلت: الملازمة ممنوعة، لأن المراد هو الكامل مع مراعاة باقي الصفات، أو يكون هذا واردا على سبيل المبالغة تعظيما لترك الإيذاء، كما كان ترك الإيذاء هو نفس الإسلام الكامل، وهو محصور فيه على سبيل الادعاء. وأمثاله كثيرة. فافهم. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى حسن معاملة العبد مع ربه، لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى، أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. قلت: فيه نظر وخدش من وجهين. أحدهما: أن قوله: يحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى حسن معاملة العبد مع ربه ممنوع، لأن الإشارة ما ثبت بنظم الكلام وتركيبه مثل العبارة، غير أن الثابت من الإشارة غير مقصود من الكلام، ولا سيق الكلام له فانظر هل تجد فيه هذا المعنى؟ والثاني: أن قوله: فأولى أن يحسن معاملة ربه ممنوع أيضا، ومن أين الأولوية في ذلك، والأولوية موقوفة على تحقق المدعي والدعوى غير صحيحة، لأنا نجد كثيرا من الناس يسلم الناس من لسانهم وأيديهم، ومع هذا لا يحسنون المعاملة مع الله تعالى؛ وفيه العطف بين الجملتين تنبيها على التشريك في المعنى المذكور، وفيه من أنواع البديع: تجنيس الاشتقاق، وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد، نحو قوله تعالى: * (فأقم وجهك للدين القيم) * (الروم: 43) فإن: أقم والقيم، يرجعان في الاشتقاق إلى: القيام.
(بيان استنباط الفوائد) الأولى: فيه الحث على ترك أذى المسلمين بكل ما يؤذي. وسر الأمر في ذلك حسن التخلق مع العالم، كما قال الحسن البصري في تفسير الأبرار: هم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون الشر. الثانية: فيه الرد على المرجئة، فإنه ليس عندهم إسلام ناقص. الثالثة: فيه الحث على ترك المعاصي واجتناب المناهي.
(الأسئلة والأجوبة) منها: ما قيل لم خص اليد مع أن الفعل قد يحصل بغيرها؟ أجيب: بأن سلطنة الأفعال إنما تظهر في اليد إذ بها البطش والقطع والوصل والأخذ والمنع والإعطاء ونحوه، وقال الزمخشري: لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت، فقيل: في كل عمل: هذا مما علمت أيديهم، وإن كان عملا لا يأتي فيه المباشرة بالأيدي. ومنها: ما قيل لم قرن اللسان باليد؟ أجيب: بأن الإيذاء باللسان واليد أكثر من غيرهما. فاعتبر الغالب. ومنها: ما قيل: لم قدم اللسان على اليد؟ أجيب: بأن إيذاء اللسان أكثر وقوعا وأسهل. ولأنه أشد نكاية، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: (اهج المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبل) وقال الشاعر:
* جراحات السنان لها التئام * ولا يلتام ما جرح اللسان *
(١٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 137 ... » »»