العلماء إنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها قوى البشرية فبدئ بأول خصال النبوة وتباشير الكرامة من صدق الرؤيا وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة قولها (ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه وهو التعبد الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق) أما الخلاء فممدود وهو الخلوة وهي شأن الصالحين وعباد الله العارفين قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله حببت العزلة إليه صلى الله عليه وسلم لأن معها فراغ القلب وهي معينة على التفكر وبها ينقطع عن مألوفات البشر ويتخشع قلبه والله أعلم وأما الغار فهو الكهف والنقب في الجبل وجمعه غيران والمغار والمغارة بمعنى الغار وتصغير الغار غوير وأما حراء فبكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد وهو مصروف ومذكر هذا هو الصحيح وقال القاضي فيه لغتان التذكير والتأنيث والتذكير أكثر فمن ذكره صرفه ومن أنثه لم يصرفه أراد البقعة أو الجهة التي فيها الجبل قال القاضي وقال بعضهم فيه حرى بفتح الحاء والقصر وهذا ليس بشئ قال أبو عمر الزاهد صاحب ثعلب وأبو سليمان الخطابي وغيرهما أصحاب الحديث والعوام يخطئون في حراء في ثلاثة مواضع يفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرون الألف وهي ممدودة وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى والله أعلم وأما التحنث بالحاء المهملة والنون والثاء المثلة فقد فسره بالتعبد وهو تفسير صحيح وأصل الحنث الاثم فمعنى يتحنث يتجنب الحنث فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث ومثل يتحنث يتحرج ويتأثم أي يتجنب الحرج والاثم وأما قولها الليالي أولات العدد فمتعلق يتحنث لا بالتعبد ومعناه يتحنث الليالي ولو جعل متعلقا بالتعبد فسد المعنى فان التحنث لا يشترط فيه الليالي بل يطلق على القليل والكثير وهذا التفسير اعتراض بين كلام
(١٩٨)