لعلي وحزبه كان حجة على المستصغرين لسنه ودليلا على عدم صلاح غيره لهذا المنصب العظيم. فإذا كان الاخلاء لم يتم لتمانع القوم وعرقلتهم للبعث فإن الحجة ثابتة مع الدهر.
ولا يصح للباحث أن يدعي إن السبب الحقيقي لتخلف القوم هو ما تظاهروا به من عدم الرضى بإمارة قائدهم الصغير، وإن تذرعوا به عذرا لإخفاء تلك الشنشنة التي عرفها النبي من أخزم، لأنا نرى أن لو كان هذا هو السبب الحقيقي، لما تنفذ البعث بعد أن تم أمر الخلافة الذي به زال المانع الحقيقي، والمسلمون إلى النبي أطوع منهم إلى أبي بكر لو كان يمنعهم صغر القائد. ولم يتأب عمر نفسه بعد ذلك أن يخاطب أسامة بالأمير طيلة حياته اعترافا بإمارته.
أما الشفقة على النبي - إن لم تكن عذرا آخر تذرعوا به - فلا يصح أن تكون سببا حقيقيا، إذ ينبغي أن يكونوا عليه أشفق بالتحاقهم بالبعث، وقد غضب أشد الغضب من تأخرهم على ما فيه من حال ومرض. ولئن ذهبوا يسألون عنه الركبان كان أكثر برا بنبيهم من أن يعصوا أمره ويغضبوه ذلك الغضب المؤلم له.
ولو أن القوم كانوا قد امتثلوا الأمر لأصابوا خيرا كثيرا ولتبدل سير التأريخ ومجرى الحوادث تبدلا قد لا يحيط به حتى الخيال " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون "