ما أنزل الله على رسوله، وبأهل مكة الطلقاء مضمري العداوة والبغضاء ومن كان على شاكلتهم من ضواري الفتنة، وطواغي الغي وسباع الغارة وأعداء الحق، وقد قويت بفقد النبي صلى الله عليه وآله شوكتهم، إذ صار المسلمون بعده صلى الله عليه وآله كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية بين ذئاب عادية ووحوش ضارية، ومسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد الدجال، وسجاح بنت الحارث الأفاكة، وأصحابهم قائمون (في محق الإسلام وسحق المسلمين) على ساق.
والرومان والأكاسرة وغيرهما من ملوك الأرض كانوا للمسلمين بالمرصاد إلى كثير من هذه العناصر الجياشة بكل حنق من محمد وآله وأصحابه صلى الله عليه وآله وبكل حقد وحسيكة لكلمة الإسلام تريد أن تنقض أساسها، وتستأصل شأفتها وأنها لنشيطة في ذلك مسرعة متعجلة، ترى أن الأمر قد استتب، لها وأن الفرصة بفقد رسول الله صلى الله عليه وآله قد حانت، فأرادت أن تسخر تلك الفرصة وتنتهز تلك الفوضى، قبل أن يعود الإسلام إلى قوة وانتظام، فوقف أمير المؤمنين بين هذين الخطرين، فكان من الطبيعي له أن يضحي حقه قربانا لدين الإسلام وإيثارا للصالح العام، لذلك قعد في بيته - فلم يبايع حتى أخرجوه كرها - (938) احتفاظا بحقه واحتجاجا على المستأثرين به وعلى أوليائهم يوم القيامة ولو أسرع إلى البيعة ما قامت له بعد حجة، ولا سطع لأوليائه برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين والمسلمين، والاحتفاظ بحقه في إمرة المؤمنين فدل هذا على أصالة رأيه، ورجاحة حلمه، وسعة صدره، وإيثار المصلحة