قال ابن الملك: فهل تعلم أحدا من الناس يدعو إلي التزهيد في الدنيا غيركم؟ قال الحكيم: أما في بلادكم هذه فلا وأما في سائر الأمم ففيهم قوم ينتحلون الدين بألسنتهم ولم يستحقوه بأعمالهم، فاختلف سبيلنا وسبيلهم، قال ابن الملك:
كيف صرتم أولى بالحق منهم وإنما أتاكم هذا الامر الغريب من حيث أتاهم؟
قال الحكيم: الحق كله جاء من عند الله عز وجل وإنه تبارك وتعالى دعا العباد إليه فقبله قوم بحقه وشروطه حتى أدوه إلى أهله كما أمروا، لم يظلموا ولم يخطئوا ولم يضيعوا، وقبله آخرون فلم يقوموا بحقه وشروطه، ولم يؤدوه إلى أهله، ولم يكن لهم فيه عزيمة، ولا على العمل به نية ضمير، فضيعوه واستثقلوه فالمضيع لا يكون مثل الحافظ، والمفسد لا يكون كالمصلح، والصابر لا يكون كالجازع، فمن ههنا كنا نحن أحق به منهم وأولى.
ثم قال الحكيم: إنه ليس يجري على لسان أحد منهم من الدين والتزهيد والدعاء إلى الآخرة إلا وقد اخذ ذلك عن أصل الحق (1) الذي عنه أخذنا، ولكنه فرق بيننا وبينهم أحداثهم التي أحدثوا وابتغاؤهم الدنيا وإخلادهم إليها، وذلك أن هذه الدعوة لم تزل تأتي وتظهر في الأرض مع أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم في القرون الماضية على ألسنة مختلفة متفرقة، وكان أهل دعوة الحق أمرهم مستقيم، وطريقهم واضح، ودعوتهم بينة، لا فرقة فيهم ولا اختلاف، فكانت الرسل عليهم السلام إذا بلغوا رسالات ربهم، واحتجوا لله تبارك وتعالى على عباده بحجة وإقامة معالم الدين وأحكامه، قبضهم الله عز وجل إليه عند انقضاء آجالهم ومنتهى مدتهم، ومكثت الأمة من الأمم بعد نبيها برهة من دهرها لا تغير ولا تبدل ثم صار الناس بعد ذلك يحدثون الاحداث ويبتغون الشهوات، ويضيعون العلم، فكان العالم البالغ المستبصر منهم يخفى شخصه ولا يظهر علمه، فيعرفونه باسمه ولا يهتدون إلى مكانه ولا يبقى منهم إلا الخسيس من أهل العلم، يستخف به أهل الجهل والباطل، فيخمل العلم ويظهر الجهل، وتتناس القرون فلا يعرفون إلا الجهل،