ويزداد الجهال استعلاء وكثرة، والعلماء خمولا وقلة، فحولوا معالم الله تبارك وتعالى عن وجوهها، وتركوا قصد سبيلها، وهم مع ذلك مقرون بتنزيله، متبعون شبهه ابتغاء تأويله، متعلقون بصفته، تاركون لحقيقته، نابذون لأحكامه، فكل صفة جاءت الرسل تدعوا إليها فنحن لهم موافقون في تلك الصفة، مخالفون لهم في أحكامهم وسيرتهم، ولسنا نخالفهم في شئ إلا ولنا عليهم الحجة الواضحة والبينة العادلة من نعت ما في أيديهم من الكتب المنزلة من الله عز وجل فكل متكلم منهم يتكلم بشئ من الحكمة فهي لنا وهي بيننا وبينهم تشهد لنا عليهم بأنها توافق صفتنا وسيرتنا وحكمنا وتشهد عليهم بأنها مخالفة لسنتهم وأعمالهم، فليسوا يعرفون من الكتاب إلا وصفه، ولا من الذكر إلا اسمه، فليسوا بأهل الكتاب حقيقة حتى يقيموه.
قال ابن الملك: فما بال الأنبياء والرسل عليهم السلام يأتون في زمان دون زمان؟
قال الحكيم: إنما مثل ذلك كمثل ملك كانت له أرض موات لا عمران فيها، فلما أراد أن يقبل عليها بعمارته أرسل إليها رجلا جلدا أمينا ناصحا، ثم أمره أن يعمر تلك الأرض وأن يغرس فيها صنوف الشجر وأنواع الزرع، ثم سمى له الملك ألوانا من الغرس معلومة، وأنواعا من الزرع معروفة، ثم أمره أن لا يعدو ما سمى له وأن لا يحدث فيها من قبله شيئا لم يكن أمره به سيده، وأمره أن يخرج لها نهرا ويسد عليها حائطا، ويمنعها من أن يفسدها مفسد، فجاء الرسول الذي أرسله الملك إلى تلك الأرض فأحياها بعد موتها وعمرها بعد خرابها، وغرس فيها وزرع من الصنوف التي أمره بها، ثم ساق نهر الماء إليها حتى نبت الغرس واتصل الزرع، ثم لم يلبث قليلا حتى مات قيمها، وأقام بعده من يقوم مقامه وخلف من بعده خلف خالفوا من أقامه القيم بعده وغلبوه على أمره، فأخربوا العمران، وطموا الأنهار، فيبس الغرس، وهلك الزرع، فلما بلغ الملك خلافهم على القيم بعد رسوله وخراب أرضه أرسل إليها رسولا آخر يحييها ويعيدها ويصلحها كما كانت في منزلتها الأولى، وكذلك الأنبياء والرسل عليهم السلام يبعث الله عز وجل الواحد بعد الواحد فيصلح أمر الناس بعد فساده.