وأفهمه معاني أصواتها على سبيل المعجز له، وليس هذا بمنكر، فان النطق بمثل هذا الكلام المسموع منا لا يمتنع وقوعه ممن ليس بمكلف ولا كامل العقل، ألا ترى أن المجنون ومن لم يبلغ الكمال من الصبيان قد يتكلفون (١) بالكلام المتضمن للأغراض وإن كان التكليف والكمال عنهم زائلين، والقول فيما حكي عن الهدهد يجري على الوجهين اللذين ذكرناهما في النملة، فلا حاجة بنا إلى إعادتهما.
وأما حكايته أنه قال: ﴿لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين﴾ (2) وكيف يجوز أن يكون ذلك في الهدهد وهو غير مكلف ولا يستحق مثله العذاب؟
والجواب عنه أن العذاب اسم للضرر الواقع وإن لم يكن مستحقا، فليس يجري مجرى العقاب الذي لا يكون إلا جزاء على أمر تقدم فليس يمتنع أن يكون معنى لأعذبنه أي لأولمنه، ويكون الله تعالى قد أباحه الايلام له كما أباحه الذبح له لضرب من المصلحة، كما سخر له الطير يصرفها في منافعه وأغراضه، وكل هذا لا ينكر في النبي المرسل تخرق له العادات وتظهر على يده المعجزات، وإنما يشتبه على قوم يظنون أن هذه الحكايات تقتضي كون النمل والهدهد مكلفين، وقد بينا أن الامر بخلاف ذلك (3).
انتهى كلامه رحمه الله. ففي بعض ما ذكر فيه، وقد أشرنا لمن له غرام (4) إلى فهم المرام فيما مضى وما سيأتي إلى ما يكفيه ولم نتعرض للرد والقبول حذرا من أن ينتهي القول إلى ما لا يرتضيه من يعرف الحق بالرجال، ويمكن تأويل كلامه بحيث لا ينافي ما نظن فيه ونعتقده من غاية العرفان، والله أعلم بحقيقة الحال، وسيأتي الأخبار الكثيرة في ذلك في أبواب المعجزات ومضى بعضها.