فلما ملك بقي في ملكه ثمانيا وثلاثين (1) سنة، فتحزب الناس في ملكه أحزابا: منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب بها، وكبر ذلك على الملك وبكى إلى الله عز وجل وتضرع إليه وحزن حزنا شديدا، فلما فشا ذلك في ملكه دخل بيته و أغلقه عليه، ولبس مسحا، (2) وجعل تحته رمادا، وجعل يتضرع إلى الله ليله ونهاره، ويبكي مما يرى فيه الناس فأحيا الله الفتية فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم، طيبة أنفسهم، فسلم بعضهم على بعض، كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون لها (3) إذا أصبحوا من ليلتهم، ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا، فلما قضوا صلاتهم قال بعضهم لبعض:
" كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " وكل ذلك في أنفسهم يسير، فقال لهم يمليخا: افتقدتم والتمستم بالمدينة، وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل، فقال لهم مكسملينا: (4) يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقوا الله، ولا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غدا، ثم قالوا ليمليخا:
انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها اليوم، وما الذي نذكر به عند دقيانوس وتلطف ولا يشعرن بنا أحد، وابتع لنا طعاما فأتنا به، وزدنا على الطعام الذي جئتنا به أمس فإنه كان قليلا فقد أصبحنا جياعا.
فانطلق يمليخا في الثياب التي كان يتنكر فيها، (5) فلما أتى باب المدينة رأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الايمان، فعجب من ذلك فتحول إلى باب آخر فرأى مثل ذلك، ورأي ناسا كثيرا محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويعجب، ثم دخل المدينة فسمع الناس يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فرقا، فقال في نفسه: لعل هذه المدينة ليست بالمدينة التي أعرف، ثم لقي فتى من أهلها فقال له: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ فقال: أفسوس، فقال في نفسه: لعل بي مسا أو أمرا أذهب عقلي، والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى أو يصيبني شر، فدنا من الذين يبيعون الطعام