إلا للعبادة) دل على أن مكان العبادة ينبغي أن يكون طاهرا نزها لأنه يوجب نشاط النفس وسرورها ويدفع عنها أنقباضها وكل ذلك يعدها للحركة إلى المقامات العالية الموجبة لتحمل مشاق العبادة ورياضاتها (فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيبا فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة) أي في الوجود أو في هذا الموضع والأول أولى وأنسب وإنما عد هذا عيبا للمكان باعتبار أنه سبب لعيبه وهو ضياع حشيشه كما أشار إليه بقوله (فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإن هذا الحشيش يضيع) بيان للملازمة (فقال له ذلك الملك: وما لربك حمار) «ما» للاستفهام ويحتمل أن يكون للنفي أيضا أي ليس لربك حمار لأنه أجل وأرفع من أن يكون له حمار، وفيه أن النفي على تقدير صحته لا يناسب قوله (فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش) هذا قياس استثنائي أنتج برفع التالي رفع المقدم والملازمة ممنوعة لأن خلق كل حشيش لا يجب أن يكون للحمار ونحوه إذ له منافع كثيرة ومصالح جمة لا يعلمها إلا هو، فهذا الكلام من جملة ما دل على قلة عقله (فأوحى الله إلى الملك إنما اثيبه على قدر عقله) فكما كان عقله قليلا كان ثواب عمله أيضا قليلا، وأما عقله فلعدم علمه بأنه ما يفعل ربه بالحمار وأي احتياج له إليه وأن العيب الذي نسبه إلى المكان راجع بزعمه إلى عيب ربه واعتراض عليه بضعف تدبيره لخلق الحشيش عبثا بلا منفعة ولا مصلحة، وأن خلق كل حشيش لا يجب أن يكون لأجل حمار وأن لكل شئ منافع وأغراضا لا يعلمها إلا هو وأن ليس لأحد أن يقوله لربه: لم خلقت هذا؟ ولم تخلق ذاك، وأن المقامات العلية والدرجات الرفيعة إنما هي للعابدين المعرضين عما سواه حتى علق قلبه بأخس المخلوقات وصرف همته إلى أن يكون راعيا لئلا يضيع النباتات.
و فيه دلالة على أن أمثال هذه الاعتقادات الفاسدة والاعتراضات الباطلة والاقتراحات الكاسدة لا يضر في أصل الايمان ولا في الإثابة على الأعمال الصالحة إذا كان مستندة إلى قلة العقل وضعف البصيرة كيف وقد دل الأحاديث الكثيرة على أن أكثر أهل الجنة النساء وضعفاء العقول، لا يقال: ترتب الثواب على العبادة مشروط بصحتها وصحتها مشروطة بنية التقرب إلى الله تعالى ونية التقرب إليه متوقفة على معرفته ومعرفته بهذا النحو وهو أنه خالق الأشياء عبثا بلا مصلحة ولا منفعة ليست بمعرفة حقيقة فكيف يترتب الثواب على عبادة هذا الرجل في الآخرة، لأنه يقال: أدنى المعرفة مع نفي الشريك يكفي في ترتب أدنى الثواب على العمل وذلك أن العبد إذا عرف ربه بقدر عقله ووسعه ولم يعتقد الشريك له ولا مشابهته لخلقه في الجسمية والمقدار وما يتبعهما كان قابلا لرحمته الواسعة مع رجحان الرحمة فإذا ضم معها عبادة عارية من الكبر والعجب والرياء وغيرها من الآفات والمفسدات للعبادة صار جانب الرحمة أرجح واستحقاق الثواب أقوى فوجب تحقق الثواب ولو