علما بكل بشئ يعلم الكلمة التي تصلح أن تليه ويعلم وجوه المعاني ومواضع استعمالات الكلام وحسن ابتدائها واختتامها حتى لو أريد تغيير شئ منها بأحسن من ذلك لم يمكن ولم يوجد وليس في قدرة البشر أن يحيطوا علما بكل شئ فلذلك تجد الفصيح منا قد يصنع الخطبة ثم لا يزال ينقح ويبدل. وما ذلك إلا لأنه ظهر له الآن ما لم يكن له ظاهرا قبل فلذلك صار القرآن حجة على الناس إلى يوم الدين لأنه لما نزل قوله تعالى (فأتوا بسورة من مثله) قال كل فصيح من الفصحاء: ما بال هذا الكلام لا يؤتى بمثله فلما تأمله تبين له ما تبين وصح عنده لا قدرة له على مثله وأنه من الله العزيز العليم فمنهم من آمن ومنهم من أبي حسدا، وقامت بهم الحجة على أهل العالم لأنهم كانوا من أرباب الفصاحة فإذا عجزوا فغيرهم أعجز وإلا فليأتوا بسورة من مثله، وذهب الأشعري إلى أن إعجازه بالصرفة (1) ومعناها أن الفصحاء كانوا قادرين على الإتيان بمثله إلا أن الله سبحانه صرف الهمة عنهم، وهو بهذا الوجه أيضا وإن كان آية من آيات الرسالة إلا أنه تحكم محض وقول بلا حجة، والوجه هو الأول. وله مع ذلك فضل على غيره من المعجزات لأن كل معجزة غيره لانقراضها لم يشاهد وجه إعجازها إلا من حضرها وهو باق إلى قيام الساعة ففي كل زمان يحدث من يشاهد وجه إعجازه ويتجدد إيمانه ولأن فائدة غيره إنما هي إثبات الرسالة فقط، وفائدته إثباتها مع اشتماله على علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما يكون، وعلم ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) من الوعد والوعيد والمواعظ والنصايح وجميع ما يحتاج إليه الامة إلى يوم القيامة.
(قال: فقال ابن السكيت: بالله ما رأيت مثلك قط) بالله بدون ألف قبل الجلالة على ما هو المصحح من النسخ ولفظه «باء» تحتمل وجهين:
الأول أن يكون باء القسم أو تاؤه، والثاني أن يكون حرف النداء للتعجب ولما وقف ابن السكيت على سبب اختصاص كل نبي بإعجاز مخصوص من كلام معدن الرسالة مدحه بقوله «ما رأيت مثلك قط» يعني في العلوم وحضور الجواب، مصدرا بالقسم ترويجا للمدح وتنبيها على أنه من صميم