تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٣٣٧
يكذبون ما جاء به من القرآن ويتركونه ولا يؤمنون به بعدما لزمهم تلقيه بالقبول، وقيل: الإنجيل - وليس بشيء - وأضاف الكتاب إلى الاسم الكريم تعظيما له وتهويلا لما اجترءوا عليه من الكفر به.
* (ورآء ظهورهم) * جمع - ظهر - وهو معروف، ويجمع أيضا على - ظهران - وقد شبه تركهم كتاب الله تعالى وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر، والجامع عدم الالتفات وقلة المبالاة، ثم استعمل ههنا ما كان مستعملا هناك - وهو النبذ وراء الظهر - والعرب كثيرا ما تستعمل ذلك في هذا المعنى، ومنه قوله: تميم بن مر لا تكونن حاجتي * بظهر - ولا يعيى عليك جوابها ويقولون أيضا: جعل هذا الأمر دبر أذنه ويريدون ما تقدم.
* (كأنهم لا يعلمون) * جملة حالية، أي نبذوه مشبهين بمن لا يعلم أنه كتاب الله تعالى أولا يعلمه أصلا أو لا يعلمونه على وجه الإتقان، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وهذا على تقدير أن يراد الأحبار، وفيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون؛ وفي الوجهين الأولين زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة، ومن فسر كتاب الله تعالى بالقرآن جعل متعلق العلم أنه كتاب الله أي كأنهم لا يعلمون أن القرآن كتاب الله تعالى مع ثبوت ذلك عندهم وتحققه لديهم، وفيه إشارة إلى أنهم نبذوه لا عن شبهة ولكن بغيا وحسدا، وجعل المتعلق - أنه نبي صادق - بعيد، وقد دل الآيتان قوله تعالى: * (أو كلما عاهدوا) * (البقرة: 100) الخ، وقوله تعالى: * (ولما جاءهم) * الخ بناء على احتمال أن يكون الأكثر غير النابذين، على أن جل اليهود أربع فرق، ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب، وهم الأقلون المشار إليهم ب * (بل أكثرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 100) وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدي الحدود، وهم المعنيون بقوله تعالى: * (نبذ فريق منهم) * وفرقة لم يجاهروا، ولكن نبذوا لجهلهم - وهم الأكثرون - وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها سرا؛ وهم المتجاهلون.
* (واتبعوا ما تتلوا الشي‍اطين على ملك سليم‍ان وما كفر سليم‍ان ول‍اكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ومآ أنزل على الملكين ببابل ه‍اروت وم‍اروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الاخرة من خل‍اق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) * * (واتبعوا ما تتلوا الشي‍اطين) * عطف على * (نبذ) * (البقرة: 101) والضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب - على ما تقدم عن السدي، وقيل: عطف على مجموع ما قبله عطف القصة على - القصة، والضمير للذين تقدموا من اليهود، أو الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام، أو الذين كانوا في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم، أو ما يتناول الكل لأن ذاك غير ظاهر إذ يقتضي الدخول في حيز ل‍ (ما) واتباعهم هذا ليس مترتبا على مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه أن ما علمت من قول السدي يفتح باب الظهور، اللهم إلا أن يكون المبني غيره، وقيل: عطف على * (أشربوا) * (البقرة: 93) وهو في غاية البعد، بل لا يقدم عليه من جرع جرعة من الإنصاف، والمراد - بالاتباع - التوغل والإقبال على الشيء بالكلية، وقيل: الاقتداء، و * (ما) * موصولة و * (تتلوا) * صلتها، ومعناه تتبع أو تقرأ - وهو حكاية حال ماضية، والأصل - تلت - وقول الكوفيين إن المعنى: ما كانت تتلوا محمول على ذلك - لا أن كان هناك مقدرة - والمتبادر من الشياطين مردة الجن وهو قول الأكثرين، وقيل: المراد بهم شياطين الإنس، وهو قول المتكلمين من المعتزلة. وقرأ الحسن والضحاك (الشياطون) على حد ما رواه الأصمعي عن العرب - بستان فلان حوله بساتون - وهو من الشذوذ بمكان حتى قيل: إنه لحن.
* (على ملك سليم‍ان) * متعلق ب * (تتلوا) * وفي الكلام مضاف محذوف أي عهد ملكه وزمانه، أو الملك مجاز عن العهد، وعلى التقديرين * (على) * بمعنى - في - كما أن - في - بمعنى على في قوله تعالى: * (لأصلبنكم في جذوع النخل) * (طه: 71) وقد صرح في " التسهيل " بمجيئها للظرفية ومثل له بهذه الآية لأن الملك
(٣٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 332 333 334 335 336 337 338 339 340 341 342 ... » »»