قد انتظمت بسلك الايجاز، وانتظم في سلكها الاعجاز، فبرزت تخطر دلالا، وتسحب أبراد البلاغة اختيالا، تجر تلك الأذيال، على نثر هو السحر الحلال، قد تنزلت من سماء ذلك الحلال آياته الباهرة، واستغرقت من الصب حواسه الخمس، بما اقامه في مقام الذهول، فجدير أن يتلى عليهم (851) فإذا هم بالساهرة، وحيث أن الداعي، لمالك رقاب المناقب والمساعي، وإن كان ليس ببعيد الغور، يرى الامر الصادر من تلك الحضرة للفور، فبادر إلى الامتثال، راجيا أن ينظمه القبول في سلك من حظى بالاقبال، عقد الله عز ذلك الجناب بناصية الدهر، ولا برحت تأرج بعبير ثرى تلك الأعتاب مفارق الملوك الغر، ما ضرب الليل رواقه، وحل بيد الصبح عن الغزالة نطاقه، وهذا دعاء للبرية شامل.
فأجابه بهذه الرسالة:
أخذت بكف الشوق والاحترام، أدام الله بقاك مدى الدهر والأعوام، ما تفضلت به من نفيس التخميس، المهزم بسطوته البليغة من أرباب الفصاحة ألف خميس، ورقيق (852) التشطير، الاخذ بشطري الحسن، ولم يكن له شبيه ولا نظير، فوجدتهما لعمري قد ارتقيا الطرف الأعلى من البلاغة، وارتفعا بعد أن انتصبا بمقام من الاحسان انخفضت دونه أكابر الصناعة ولم يبلغ أحد بلاغة، فما أعذب ألفاظها، وأدق معانيها، وأعمر أبياتها، وأحكم مبانيها، فلو رآها (أبو تمام) لاعترف بانحطاطه من ذيالك المقام، أو (الشريف الرضي) لارتضاها وأقر طائعا بحسن السبك والنظام، أو (امرئ القيس) لما امتري أنها (853) أبلغ من شعره، أو (عمر بن أبي ربيعة) لما شك أنها (854) أرق من سلوكه في نظمه ونثره، أو (حسان بن ثابت) لاستحسنها وثبت عنده أنك إمام البلاغة، أو (زهير بن أبي سلمى) لتاه عجبا من رونقها الأزهري وعلم أنك مصدر الحكمة في هذه الصياغة (855)، وأما ما رصعتها به من جواهر نثرك الذي انتظمت دراريه، وعذبت ألفاظه واستحكمت معانيه، فهو وبهي سمتك، ورقة طبعك، كما قيل: السحر الحلال، والماء العذب، تجلى به الابصار والبصائر، وترتاح بسماعه القلوب والضمائر، فلو رآه (الصابي) لصبا إليه، وتنسم من عبير صباه، وعلم أنه لو باراه، لما أتى بمثله ولا جاراه، أو رئيس الخطباء (قس بن ساعدة) لفارق المواسم وسلم أن ذلك خارج عن طوقه ولو ألف بليغ من قومه ساعده، أو كافي الكفاة (الصاحب بن عباد) لاستصحبه وما فارقه واكتفى به وما زاد، ثم إني ورفيع قدرك، وسني فصاحتك، وعلي بلاغتك، قد صرت غريق بحار الحيرة، لا أدري بأي كيفية أؤدي شكرك، وبأي لسان أصفك، فأكافي فضلك، بما تنزلت به (856) من تخميس أبياتي اللواتي من الحسن عاريات، وتشطيرهن مع أنهن غير عامرات ولا لائقات، وكلما أبرمت الاعزام، وشددت حيازيم الاهتمام، ونقلت الاقدام، لأداء هذا المرام، قصر بي ضعف قوى الفكر وعي اللسان، وضيق الجنان، وكبا أدهم القلم في هذا الميدان، لعلو شرفك الذي لا يباري، ووفور محاسنك التي لا تجاري، غير أن العدول عن ذلك بالكلية إخلال بالواجبات، لان شكر المحسن من المفروضات، وبناء على أن مالا يدرك كله، لا يترك أقله (857)، أقول: وليس سواء عالم وجهول، لأشكرنك شكرا يليق بجنابك، ويفي باحسانك، ما كر الجديدان، وما تعاقب (858) الملوان، والسلام عليكم، بعد (859) شوقي إليكم.
قال السيد: فأجبته بهذه الرسالة على أثرها، بكل نظمها ونثرها، وقلت: لاطفت الصب جميلة برك، وتلطفت بالمغرم المشوق عقيلة نثرك، قد زارت محبا رفعها على الأحداق، واجتنى من (860) محاسنها ثمرات الأوراق، ثم حل عنها النطاق، ببنان فكرة المتأمل، ونضا عنها أبرادها الرقاق، إلا لبسة المتفضل، فوجدها آخذة بأطراف النباهة والفكاهة، ووجد نفسه عن منادمة مثلها على طرف من العي والفهاهة، فترك مفاوضتها المدح، وعدل عن مقارضتها الثناء ولا قدح، ورأى الالتحاف بشملة التسليم بالقصور والاعتراف، أليق بكليل الذهن واللسان، من مقاومة شواهد الاختبار والامتحان، فبادر بأنامل العذر، يفض لطايم الشكر، ويهدي من نسمات الحمد، ما هو أطيب من نسمات الورد:
لي العذر كل لسان القلم * وجف بما هو طرسي رسم (861)