الثقافة الروحية في إنجيل برنابا - محمود علي قراعة - الصفحة ٢٥٤
وفاكهته وريحانه، ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه ولا مال يتلفته ولا طمع يذله، دابته رجلاه وخادمه يداه، فتأس بنبيك الأطهر صلى الله عليه وآله، فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى، وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتض لأثره، قضم الدنيا قضما ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا، فأبى أن يقبلها علم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره وصغر شيئا فصغره، ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به شقاقا لله ومحادة عن أمر الله، ولقد كان صلى الله عليه وآله يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول يا فلانة لإحدى أزواجه غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشا ولا يعتقدها قرارا ولا يرجوا فيها مقاما، فأخرجها من النفس وأشخصها عن القلب وغيبها عن البصر، وكذا من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده، ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله، ما يدلك على مساوي الدنيا وعيوبها إذ جاع فيها مع خاصته وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته فلينظر ناظر بعقله، أكرم الله محمدا بذلك أم أهانه، فإن قال أهابه فقد كذب وأتى بالإفك العظيم، وإن قال أكرمه، فليعلم أن الله أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه، فتأس متأس بنبيه، واقتص أثره وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة، فإن الله جعل محمدا صلى الله عليه وسلم علما للساعة ومبشرا بالجنة ومنذرا بالعقوبة، وخرج من الدنيا خميصا، وورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر، حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه، فما أعظم منة الله عندنا، حين أنعم علينا به سلفا نتبعه، وقائدا نطأ عقبه (1) "

(١) راجع ص ٣١٠ - ٣١٥ من نهج البلاغة ج ١.
(٢٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 249 250 251 252 253 254 255 256 257 258 259 ... » »»