الثقافة الروحية في إنجيل برنابا - محمود علي قراعة - الصفحة ١٧٢
غاب عنا من سلطانك، وما أسبغ نعمك في الدنيا وما أصغرها في نعيم الآخرة!
من ملائكة أسكنتهم سمواتك ورفعتهم عن أرضك، هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقربهم منك، لم يسكنوا الأصلاب ولم يضمنوا الأرحام ولم يخلقوا من ماء مهين ولم يشعبهم ريب المنون، وإنهم على مكانهم منك ومنزلتهم عندك واستجماع أهوائهم فيك وكثرة طاعتهم لك وقلة غفلتهم عن أمرك، لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقروا أعمالهم ولزروا على أنفسهم، ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك ولم يطيعوك حق طاعتك!
سبحانك خالقا ومعبودا بحسن بلائك عند خلقك، خلقت دارا وجعلت فيها مأدبة، مشربا ومطعما، وأزواجا وخدما وقصورا وأنهارا وزروعا وثمارا، ثم أرسلت داعيا يدعو إليها، فلا الداعي أجابوا ولا فيما رغبت إليه رغبوا ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا، أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها واصطلحوا على حبها، ومن عشق شيئا أعشى بصره وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع بأذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه، فهو عبد لها ولمن في يده شئ منها، حيثما زالت زال إليها، وحيثما أقبلت أقبل عليها، ولا يزدجر من الله بزاجر ولا يتعظ منه بواعظ، وهو يرى المأخوذين على الغرة حيث لا إقالة ولا رجعة، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون، فغير موصوف ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم وتغيرت لها ألوانهم، ثم ازداد الموت فيهم ولوجا، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأذنه، على صحة من عقله وبقاء من لبه، يفكر فيم أفنى عمره وفيم أذهب دهره، ويتذكر أموالا جمعها، أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتا، قد لزمته تبعات جمعها، وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه، ينعمون فيها ويتمتعون بها، فيكون المهنأ لغيره والعب ء على ظهره، والمرء قد غلقت رهونه بها، فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره، ويتمنى أن الذي كان يغبطه
(١٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 167 168 169 170 171 172 173 174 175 176 177 ... » »»