لتدرك منقطع قدرته، وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولهت القلوب إليه، لتجري في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول من حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب، متخلصة إليه سبحانه، فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا تخطر ببال أولي الرويات خاطرة من تقدر جلال عزته، الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله ولا مقدار احتذى عليه من خالق معهود كان قبله، وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوته، ما دلنا باضطرار قيام الحجة له على معرفته، وظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته وأعلام حكمته، فصار كل ما خلق حجة له ودليلا عليه، وإن كان خلقا صامتا فحجته بالتدبير ناطقة ودلالته على المبدع قائمة، وأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ندلك، وكأنه لم يسمع تبرء التابعين من المتبوعين، إذ يقولون تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين، كذب العادلون بك، إذ شبهوك بأصنامهم ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزأوك تجزئة المجسمات بخواطرهم، وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم، وأشهد أن من ساواك بشئ من خلقك، فقد عدل لك، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك، وأنك أنت الله الذي لم تتناه في العقول، فتكون في مهب فكرها مكيفا ولا في رويات خواطرها، فتكون محدودا مصرفا!
قدر ما خلق فأحكم تقديره، ودبره فألطف تدبيره، ووجهه لوجهته فلم يتعد حدود منزلته، ولم يقصر دون الانتهاء إلى غايته، ولم يستصعب إذ أمر بالمضي على إرادته، وكيف وإنما صدرت الأمور عن مشيئته، المنشئ أصناف الأشياء بلا روية فكر آل إليها ولا قريحة غريزة أضمر عليها، ولا تجربة أفادها من حوادث الدهور، ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور، فتم خلقه