وتأملت جملا من عباراته، من مواضع مختلفات، ومواضيع متفرقات، فكان يخيل لي في كل مقام أن حروبا شبت، وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وأن للأوهام عرامة، وللريب دعارة، وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تنافح بالفصيح الأبلج، والقويم الأملج، وتمتلج المهج برواضع الحجج، فتفل من دعارة الوساوس، وتصيب مقاتل الخوانس، فما أنا إلا والحق منتصر، والباطل منكسر، ومرج الشك في خمود، وهرج الريب في ركود. وإن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد، وتحول المعاهد:
فتارة كنت أجدني في عالم يعمره من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوم منها مرادها، وتنفر بها عن مداحض المزال، إلى جواد الفضل والكمال.
وطورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور، قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها، واغتالت فاسد الأهواء، وباطل الآراء.
وأحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا، لا يشبه خلقا جسدانيا، فصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمار جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس.
وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأئمة، يعرفهم مواقع الصواب، ويبصرهم مواضع الارتياب، ويحذرهم مزالق