مجلة تراثنا - مؤسسة آل البيت - ج ٣٤ - الصفحة ١٠٨
اللين والأمن، وإن عصور الأمن عصور طراوة ودعة لا تحفز النفوس، ولا تستثير قواها الكامنة.
وعلى النقيض من ذلك عصور المشادة والجهاد التي تحرك أعمق أعماق النفوس وتثير كل تياراتها، وتبتعث رواقدها، لما تتطلبه طبيعة العراك من استمداد كل قوة، وإفراغ كل جهد.
إن الاضطهاد العنيف لم يترك في أدب آل البيت أنينا وشكوى، ولا بكاء ولا عويلا، وإنما ترك قوة صامدة، وتحقيرا لأمر الدنيا، وإعظاما للجهاد، وإكبارا للتضحية.
ولم يكن لآل البيت أسلوب قوي فحسب، بل كانت معانيهم أيضا قوية، فقد اصطبغت هذه المعاني بالمثل الأعلى للإيمان والعقيدة، فاكتسبت رونقا وجلالا، وعظمة وجمالا.
ولا غرو، فقد قدموا في سبيل هذه العقيدة أغلى ما يمكن أن يقدمه إنسان قربانا لعقيدة، وهي أنفسهم الزكية، وأرواحهم الطاهرة، أليس يقول الإمام رضي الله عنه: " لنا حق فإن أعطيناه، وإلا ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السرى ".
وقد اجتمع له رضي الله عنه في كتاب " نهج البلاغة " ما يجتمع لكبار الحكماء، وأفذاذ الفلاسفة، ونوابغ الربانيين من آيات الحكمة السامية، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن كل موعظة باهرة، وحجة بالغة، وآراء اجتماعية، وأسس حربية، مما يشهد للإمام بالفضل وحسن الأثر.
فأنت واجد في خطبه ووصاياه رضوان الله عنه ملتقى العاطفة المشبوبة والإحساس المتطلع إلى الرحمة والإكبار، فقد كانت حياته وحياة أبنائه سلسلة من الجهاد والصراع والاضطهاد والجلاد.
فكان رضي الله عنه شجاعا في غير بغي، قويا في غير قسوة، سليم الصدر من الضغن والحقد، برئ النفس من حب الانتقام والغرور، لا يتكلف
(١٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 ... » »»
الفهرست