مجلة تراثنا - مؤسسة آل البيت - ج ٧ - الصفحة ٤٢
ثم يتم الفيلسوف المناقشة بهذه الكلمة: (وقد يختلف الخير والشر بحسب القياس، فالشئ الذي هو عند الشهوة خير، هو مثل المطعم الملائم والملبس الملائم، والذي هو عند الغضب خير، فهو الغلبة، والذي هو عند العقل خير فتارة - وباعتبار - فالحق، تارة - وباعتبار - فالجميل. ومن العقليات نيل الشكر ووفور المدح والحمد والكرامة، وبالجملة فإن همم ذوي العقول في ذلك مختلفة (5).
إننا تجد الفيلسوف في هذه النصوص مصرا على رأيه إلى حد أنه لا يتصور أي شخص بأن اللذة مقصورة على اللذات الحسية الجسمية، فيؤكد هو على اللذة العقلية.
وقد يكون بعض الأحيان - وباعتبار - الخير عند العقل جميلا حقا، فليس لأحد أن يلوم ابن سينا لأجل كونه من القائلين باللذة الحسية الجسمية.
وابن سينا لا يقف عند حد في إثبات اللذة والألم العقلي، بل هو يعتقد باللذة والألم الروحاني أيضا، وقد أشار إليهما في قوله هذا: (وذلك الألم المقابل لمثل تلك اللذة الموصوفة - وهو ألم النار الروحانية - فوق ألم النار الجسمانية) (6).
لقد صرح الفيلسوف بأعلى اللذة التي يجدها العارفون بعد إتمام مراحل السلوك اللاهوتي نحو مقام أقرب إلى الله في هذه الحياة، فقال: (والعارفون المتنزهون إذا وضع عنهم درن مقارنة البدن وانفكوا عن الشواغل خلصوا إلى عالم القدس والسعادة وانتعشوا بالكمال الأعلى وحصلت لهم اللذة العليا، وقد عرفتها) (7)..
فبهذه الفكرة العاقلة الجميلة يصبح لنا واضحا أن ابن سينا قد ترك المعتقدين باللذة الجسمية غارقين في العواطف المنعشة ومعانقين لها في هذه الحياة الدنيوية، ثم يديم سيرة نحو المراتب الروحانية أعلى من مطلق اللذة، فيقول لنا في لذة العارفين الذين هم منهمكون عميقا في عظمة الوجود وملكوته، كما قال الله تعالى: (كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) (8)، والذين هم يعتقدون أن عباداتهم، أعمالهم الدينية، حياتهم ومماتهم هي لله رب العالمين.

(5) الإشارات، ج 2، ص 88.
(6) الإشارات، ج 2، ص 94.
(7) الإشارات، ج 2، ص 96.
(8) سورة الأنعام، آية 75.
(٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 ... » »»
الفهرست