مجلة تراثنا - مؤسسة آل البيت - ج ٧ - الصفحة ٣٩
ظلالا وأشباحا، حينما يرجع الإنسان إلى ذكراها في أيامه الآتية بعد انقضاء اللذة، تولد هذه الذكرى حزنا وكآبة.
ولكن (أبيقور) يعمم مفاهيم اللذة إلى حد أنها تشمل عنده اللذات العقلية التي يكون إنجازها بسعي وكدح لإحراز الدرجات العليا في الحياة المعقولة، ففي هذا المدلول الشامل تكون أصالة اللذة بأهميتها الأساسية في واقع الحياة فوق الانتقاد والرفض.
وإن الشارحين لفكرة المدرسة البوذية بإنكارهم اللذة في حياة هذا العالم لم يعنوا نقض ذاك المعنى الشامل المستوعب للذة الجسمية، بل تنكر هذه المدرسة الفكرية في الواقع الأهواء والميل، مضحية بها تجاه الأصول العقلية. وأما بهذا التفسير الذي يبرئ المعتقد في اللذة من لوم التنازل عن قيم الإنسانية الكريمة.
وتبقي مسألة جديرة بالذكر هي أن اللذة مع مدلولها العقلي أيضا لا تمكننا بجعلها أسمى المقاصد وأعلاها في الحياة الإنسانية، رغما عن كونها عنصرا ذات قدرة كبيرة جدا، ورغم أن لنشاطها موقعا مهما في طبيعة الإنسان الجسمية والروحانية كالإحساس بالألم الضار بالحياة، الذي هو عنصر نشيط في وجود الإنسان، إذ أنه حام قوي يقف حارسا للحياة من الخلل في أنظمتها المنسقة.
هذا التفسير لفكرة اللذة يجعلها عاملا للدفاع في كل شؤون الإنسان المادية والروحانية، وأنا أعتقد أن تعبيرنا هذا عن أصالة اللذة هو - بالمقارنة - أقرب التعبيرات لما يريده الفلاسفة الكبار في فلسفاتهم الإيجابية مثل المدرستين: الإشراقية والرواقية وما قد ظهر في العصور الوسطى وفي العصر الحديث حول اللذة والألم وسعة صلاتهما مع نواة حياتنا.
لقد ذكر (بنتام) في كتابه (أصول القوانين) المناقشات القيمة التي تعمم مفهومي اللذة والألم إلى ما يشمل كل اللذات والآلام العقيلة والروحانية (1).
ولا يوجد دليل يبرر لوم من يعتقد في أصالة اللذة فيقصرها على التمتعات والاستجمامات الجسمية البحتة.

(1) أصول القوانين، بنتام، ص 33 - 40.
(٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 ... » »»
الفهرست