فثبت: إن كلما تحقق في عالم الملك والشهادة، فهو من أصل سابق في عالم متفوق عليه، وهكذا، حتى ينتهي إلى ما لا نهاية له مدة، وعدة وشدة وهو وجود الحق تعالى، وأحسن ما قيل في المقام، إن صدور العالم عن الباري تعالى، كصدور الأفكار عن ذوي الروية، فإن الفكر صادر عن ذات الإنسان، لا عن فكر آخر، لكن صدور كل فكر عن متفكر، لا بد أن ينشأ من خصوصية في ذاته، فإن الخائف عن عدو، يتفكر في وسائل تنجيه من ذلك العدو، وكذا المحب لشئ، يتفكر فيما يتوسل به للوصول إلى مطلوبه، وهكذا، فصدور العالم عن الباري عز اسمه أيضا ناشئ عن خصوصية، هي عين ذاته المقدسة، ومبدء لصدور جميع الأشياء ووجودها، فحضور ذاته تعالى، وعلمه بذاته، علم بتمام ما يصدر عنه أزلا وأبدا.
ولنختم الكلام في المقام، بذكر ما ورد عن أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السلام في توحيد الله عز وجل، تأييدا وتأنيسا لما ذكر، وهو أنه عليه السلام قال في خطبة: " دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة، لا بينونة عزلة " (1) قوله عليه السلام: دليله آياته، أي ما يدل ويهدي إلى معرفته، آياته ومخلوقاته لأن المصنوع يدل على صانعه، قوله عليه السلام:
ووجوده إثباته، إما بمعنى الوجدان، يقال: وجده وجودا، ووجدانا، أي أدركه، يعني وجوده لغيره بمعنى إثباته له، أو بمعنى أن وجوده
____________________
1 - أورده المجلسي قدس سره، في بحار الأنوار (كتاب التوحيد) باب جوامع التوحيد، نقلا عن كتاب الاحتجاج.