وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: " يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت أم إلي تشوقت؟ هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيها، وعمرك قصير وخطرك حقير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق " فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا حسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟
قال حزن من ذبح ولدها في حجرها (1).
الثامن: ابن شهرآشوب عروة بن الزبير قال تذاكرنا صالح الأعمال فقال أبو الدرداء: أعبد الناس علي بن أبي طالب (عليه السلام) سمعته قائلا بصوت حزين ونغمة شجية في موضع خال: " إلهي كم من موبقة حملتها عني فقابلتها بنعمك، وكم من جريرة تكرمت علي بكشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غفرانك ولا أنا براج غير رضوانك " ثم ركع ركعات فأخذ في الدعاء والبكاء فمن مناجاته: " إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي " ثم قال: " آه، إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول: خذوه فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولا تنفعه قبيلته، يرجمهم البلاء إذا أذن فيه بالنداء، آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة من لهبات لظى " ثم انفجر في البكاء فلم أسمع له حسا فقلت: غلب عليه النوم، أوقظه لصلاة الفجر فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون مات والله علي بن أبي طالب، قال فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم، فقالت فاطمة: ما كان من شأنه؟
فأخبرتها فقالت: " هي والله الغشية التي تأخذه من خشية الله " ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق، ونظر إلي وأنا أبكي فقال: مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟
فكيف لو رأيتني ودعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرايم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ شداد، وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمتني الأحباء ورحمني أهل الدنيا أشد رحمة لي بين يدي من لا يخفى عليه خافية (2).
التاسع: ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة قال: روى زرارة قال: قيل لجعفر بن محمد (عليه السلام): إن قوما هاهنا ينتقصون عليا قال: " بم ينتقصونه لا أبا لهم؟ وهل فيه موضع نقيصة، والله ما عرض لعلي أمران قط كلاهما لله طاعة إلا عمل بأشدهما وأشقهما عليه، ولقد كان يعمل العمل كأنه قائم بين