مشارق أنوار اليقين - الحافظ رجب البرسي - الصفحة ٢٠٦
والمكان الأدنى؟ وليس بينه وبين رسول الله ووليه سر، وهذا رمز، وحله أن ليس بينهم وبين الله واسطة من الخلق، ولا أول في السبق، ولا أقرب إلى حضرة الحق، لأنهم الخلق الأول والعالم الأعلى، والكل تحت رفعتهم، لأن الأعلى محيط بالأدنى في ضرورة الولي يعلمه، وإليه الإشارة فكل ما أبرزه الله من الغيب وبسطه قلمه في اللوح المحفوظ فإن النبي والولي يعلمه، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله: (إن الله أطلعني على ما شاء من غيبه وحيا وتنزيلا وأطلعك عليه إلهاما، وإن الله خلق من نور قلبك ملكا فوكله باللوح المحفوظ، فلا يخط هناك غيب إلا وأنت تشهده (1).
فالنبي والولي مطلعان على علم الغيب، لكن النبي لا ينطق به إلا مع الأمر لأنه الرسول (2)، وإليه الإشارة بقوله:
(ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) (3)، وأما الولي في النطق بالغيب مطلق

(١) في البحار: ٢٦ / ٤ ح ١: (أنا صاحب اللوح المحفوظ ألهمني الله علم فيه).
(٢) وذلك لقرب الناس في زمن النبي ص إلى الجاهلية ولسعيه إلى تثبيت الإسلام وقواعده.
(٣) ظاهر الآية نسبة العجلة إلى النبي وهو ينافي عظمته صلى الله عليه وآله وسلم وتوضيح ذلك:
أن الناس في الجاهلية الجهلاء، ولن تتحمل نسبة العلم إلى النبي ص بلا توسط الوحي بينه وبين الله، إما لأن الأنبياء يوحى إليهم عادة.
وإما لقرب عهدهم بالجاهلية وعدم معرفتهم المعرفة الحقيقية للنبي الأعظم، حتى أنهم كانوا ينادونه من وراء الحجرات باسمه.
وهم مع أنه ص أبرز لهم مسألة الوحي، كذبوه وقالوا: هذا من عنده، أو من عند سليمان الفارسي.
فكيف لو لم يبرز لهم الوحي وجبرائيل عليه السلام؟
وما يشير إلى ذلك أن النبي ص عندما كان يأتيه الوحي، كان يقول جاء جبرائيل، وذهب جبرائيل، وأخبرني جبرائيل عن الله تعالى، وما شابه ذلك وما ذاك إلا للتأكيد أن هناك إلها ودينا وإسلاما ورسالة من السماء.
ومن هنا نفهم الآيات والروايات التي تحدثنا أن النبي ص لم يكن يعطي الجواب حتى ينزل الوحي، فهو كان يعلم الجواب، ولكن يريد أن يغرز في نفوسهم فكرة الوحي من السماء.
قال تعالى: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) طه: / ١١٤ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن ينقضي الوحي من السماء عليه، كان مستعدا أن يقرأ على الناس القرآن، بل تقدم علمه للقرآن منذ عالم الأنوار.
ونسبة العجلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن المراد بها حتى أن التوقيت غير مناسب، بل لإبراز أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم بالقرآن وآياته قبل أن ينزل عليه جبرائيل، وبالتالي تكون الآية دليلا على ما نذكره وذكرناه سابقا أن جبرائيل كان يذكره بالقرآن تذكيرا لا يجتمع مع النسيان.
إن قيل: يحتمل في الآية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستعجل بالقرآن فيتلو الآية الأولى أو مطلعها قبل أن يكملها جبرائيل أو قبل أن ينتهي من السورة.
قلنا: فعل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذا إما مع التفاته إلى بقية الآيات التي يكملها جبرائيل، وإما مع عدم التفاته لها.
فعلى الأول لا معنى للنهي عن العجلة.
وعلى الثاني يكون النبي مفوتا للوحي ومضيعا لبعض الآيات، ولا قائل به إلا من سفه قوله قال الشيخ الطبرسي في الآية: لا تحرك به لسانك لتجعل قراءته بل كررها عليهم ليتقرر في قلوبهم فإنهم غافلون عن الأدلة، ألهاهم حب العاجلة فاحتاجوا إلى زيادة تنبيه وتقرير (مجمع البيان: ١٠ / ٦٠٣ مورد الآية - القيامة: ١٦).
وقال سيد المفسرين: ويؤول المعنى إلى أنك تعجل بقراءة ما لم ينزل بعد، لأن عندك علما في الجملة، لكن لا تكتف به واطلب من الله علما جديدا بالصبر واستماع بقية الوحي. وهذه الآية مما يؤيد ما ورد من الروايات أن للقرآن نزولا دفعة واحدة غير نزوله نجوما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلولا علم ما منه بالقرآن قبل ذلك لم يكن لعجله بقراءة ما لم ينزل منه بعد معنى (تفسير الميزان: ١٤ / ٢١٥ مورد الآية - طه:
١١٤).
وقد أبطل السيد الطباطبائي نسبة عجلة النبي ص في القراءة قبل انتهاء جبرائيل.
(تفسير الميزان: ٢٠ / ١١٠ مورد الآية - القيامة: ١٦).
* أقول: عندي أن معنى الآية: أن النبي ص كان يقرأ القرآن على الناس أو كان يبلغ بعض أحكامه ومعانيه للناس مرة واحدة، وذلك قبل أن ينزل الوحي عليه به وقبل أن ينقضي إليه، فجاء الخطاب الإلهي ليقول: لا تعجل في تبليغ القرآن، وأبلغه للناس حتى قبل نزول جبرائيل به، أبلغهم إياه بالتأني ليفهموه ويعلموا به، ولك أن تقرأه عدة مرات على الناس ولا داعي للعجلة والاقتصار على المرة، فإن قلوبهم لم تلن بعد، واشكر الله (وقل رب زدني علما) لما أتاك علم القرآن قبل أن ينزل به جبرائيل.
وبذلك ننفي محذور نسبة العجلة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويشير إليه ما روي عن ابن عباس ضمن حديث طويل عن رسول الله قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) قال: وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد، فوجدت بردها بين ثديي فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى، فعلم أخذ علي كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري، وعلم خيرني فيه، وعلمني القرآن فكان جبريل عليه السلام يذكرني به، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي.
ولقد عاجلت جبرايل عليه السلام في آية نزل بها علي، فعاتبي ربي وأنزل علي: (ولا تجعل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) (المواهب اللدنية: ٢ / ٣٨١ - ٣٨٢ بحث الإسراء والمعراج - الرابع الأخير منه، ولوامع أنوار الكواكب الدري: / ١١٨ بتفاوت).
وفي الحديث الشريف (في قاب قوسين علمني الله القرآن وعلمني الله علم الأولين) (لما مع أنوار الكوكب الدري: ١ / ١١٧ - ١١٨) * هذا هو الهدف من التركيز على جبرائيل، ورأينا كيف أن النبي مع نص القرآن أنه (وحي يوحى) نجد أن عمر ومن يدين بدينه، كيف كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الوفاة وقالوا: إن الرجل ليهجر.
فكيف لو لم يكن التركيز على الوحي وجبرائيل؟
(٢٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 200 201 203 204 205 206 208 209 211 212 213 ... » »»