خاشع خفي، وأنهضت قلوب الظالمين فبلغت الحناجر كاظمين، فعند ذلك يقال: يا ابن آدم، ألم أكرمك وأسودك (1) وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل والأنعام، وأنعم عليك بالشباب؟ ففي ماذا أبليته؟ وأمهل لك في العمر، ففي ماذا أفنيته؟ وأرزقك المال، ففي ماذا أنفقته؟ ألم أكرمك بالعلم، فماذا عملت فيه؟
فانظر خجلك وحياءك عند تعداده عليك إنعامه وأياديه، ومقابلته بمساوئك، وأنت قائم بين يديه بقلب محزون خافق وجل، وطرف خاشع ذليل منكسر، ثم أعطيت كتابك الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
أو ما علمت أن جوارحك شهوده، وأعضاءك جنوده، وضمائرك عيونه، وخلواتك عيانه، فكم من فاحشة نسيتها! وكم من طاعة غفلت عنها! وكم من ذنوب كشف لك عن مساوئها! فخجلت منها حيث لا ينفع الخجل، ووجلت حيث لا ينفع الوجل، فليت شعري بأي قدم تقف بين يديه! وبأي لسان تجيب عند العرض عليه!
وبأي قلب تعقل! فتفكر في عظم جنايتك وذنوبك، إذ يقول لك: يا عبدي أما استحيت مني! بارزتني بالقبيح، واستحيت من خلقي، فأظهرت لهم الجميل، وبارزتني بالقبيح، أكنت أهون عليك من عبادي، استخففت بنظري إليك، واستعظمت خلقي.
يا بن آدم، ما غرك بي، فماذا عملت؟ وبماذا أجبت الرسل؟ ألم أكن رقيبا عليك، وأنت تنظر بعينك إلى ما لا يحل لك! ألم أكن رقيبا على أذنيك، وأنت تسمع بهما ما لا يحل لك! وكذا يعدد عليه جميع جوارحه وأعضائه.
فانظر لنفسك، فإنك بين أن يقال لك: قد تفضلت عليك بالغفران، فيعظم سرورك وفرحك، ويغبطك الأولون والآخرون. وأما أن يقال للملائكة: خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه، فعند ذلك لو بكت عليك السماوات والأرض لكان ذلك جديرا بك، لعظم مصيبتك، وشدة حسرتك على ما فرطت من طاعة الله، وعلى ما بعت من آخرتك من دنيا دنيئة لم تبق لك.
واعلم أنه لن ينجو من هول ذلك اليوم إلا من حاسب في الدنيا نفسه، ووزن فيها بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته (2)، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب