ومن حكمة الله العظيمة أن يكون وضع الأنف بهذه الصورة، ولو أردت الحديث عن بديع صنع هذا العضو لطال بنا المقام، ولكني سأشير إليه إجمالا لتعلم ماذا جعل لك الصانع الحكيم جلت قدرته في كل عضو من أعضاءك.
فمن بدائع صنعه في حسن تركيب الأنف أنه جعله دهنيا غير صلب لئلا تتكسر العروق التي تنتشر فيه ولكن تنتقش فيها صور المحسوسات، وجعل مزاجه باردا رطبا لئلا يحترق بسبب الحرارة الناشئة من الحركات الفكرية، وجعل عليه غشائين: أحدهما رقيق ملاصق للأنف، والآخر صلب وغليظ متصل بالجمجمة، وفيه ثقوب كثيرة تخرج منها الرطوبات والفضولات الدماغية، وفيه شعب رقيقة تصعد في الشقوق الدقيقة في أعلى الجمجمة، حيث يلتقي شقي الجمجمة; ويقسم أصل الدماغ إلى قسمين أحدهما أقل صلابة من الآخر، يفصل بينهما غشاء رقيق للحيلولة دون أن يتأذى الجزء غير الصلب بالجزء الصلب، وتحت الدماغ التحتاني غشاء غليظ وعظم مسطح مفروش مشبك متكون من الشرائيين التي تصدر من القلب والكبد إلى الدماغ، وفي تلك الصفحة دم وروح لتأمين الغذاء الصاعد وتنضيجه وتبريده ليلائم مزاج الدماغ ويصير تدريجا غذاءه، ولو لم يكن كذلك لفقد الدم صلاحيته للدماغ من جهة ارتفاع حرارته، ولتعطل الدماغ عن التأثير، لأن منشأ الحس والحركة هو الدماغ، أما سائر الأعضاء فليس لها حس من ذاتها.
وقد جعل الله الرؤوف أعصابا كثيرة منتشرة في سائرة الأعضاء من جهة، ومتصلة بالدماغ من جهة أخرى لنقل الإيعازات، فإذا انفصلت تلك الأعصاب عن أصل الدماغ ثقل الرأس وصار أكبر من المتعارف، ولذا خلق الله عصبا أبيض