تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٥٨٠
من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان ذي الرمة والأحوص وبشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدرا من الدولة العباسية في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الاسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الاتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والبصر بالبلاغة. ولقد سألت يوما شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا وكان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الاسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثم قال لي والله ما أدري فقلت أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك ولعله السبب فيه وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجبا ثم قال لي يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم والله خلق الانسان وعلمه البيان الفصل التاسع والأربعون في ترفع اهل المراتب عن انتحال الشعر إعلم أن الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم وكان رؤساء العرب منافسين فيه وكانوا يقفون بسوق عكاظ لانشاده وعرض كل واحد منهم
(٥٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 575 576 577 578 579 580 581 582 583 584 585 ... » »»