البرهان فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان وهي بمنزلة الصناعة وانظر من تقدم له شئ من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي ولا يزال قاصرا فيه ولو تعلمه وعلمه وكذا البربري والرومي. والإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية والتحصيل وما أوتي إلا من قبل اللسان وقد تقدم لك من قبل أن الألسن واللغات شبيهة بالصنائع وقد تقدم لك أن الصنائع وملكاتها لا تزدحم وأن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد في أخرى أو يستولي فيها على الغاية والله خلقكم وما تعملون الفصل السادس والأربعون في صناعة الشعر ووجه تعلمه هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم ويوجد في سائر اللغات إلا أننا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب فان أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتا ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رويا وقافية ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله وما بعده وإذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أو تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر لذلك ويستطرد للخروج من فن إلى فن ومن مقصود إلى مقصود بان يوطئ المقصود الأول ومعانيه إلى أن تناسب المقصود الثاني ويبعد الكلام عن التنافر كما يستطرد من التشبيب إلى المدح ومن وصف البيداء والطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف ومن وصف الممدوح إلى وصف
(٥٦٩)