تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٥٧٥
الخلاص منه بالتنقيح والنقد ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة فإن الانسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره واختراع قريحته ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة وقد حظر أئمة اللسان المولد من ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة ويجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم وإنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا واستعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة ولا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن ولهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبي بكر (1) بن خفاجة شاعر الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبئ والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر والحاكم بذلك هو الذوق وليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ والمقصر وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة أيضا فيصير مبتذلا ويقرب من عدم الإفادة كقولهم النار حارة والسماء فوقنا وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الا جادة في الغالب ولا يحذق فيه إلا الفحول وفي القليل على الشعر لان معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده فإن القريحة مثلا الضرع يدر بالامتراء ويجف بالترك والاهمال وبالجملة فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك وهذه نبذة كافية والله المعين وقد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنه لابن رشيق

(1) قوله أبي بكر وفي نسخة أبي إسحاق الخ
(٥٧٥)
مفاتيح البحث: الوسعة (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 570 571 572 573 574 575 576 577 578 579 580 ... » »»