والبيانية فان ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم ومثاله لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ وربي في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شان الاعراب والبلاغة فيها حتى يستولي على غايتها وليس من العلم القانوني في شئ وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك بحيث يحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أجيالهم والقوانين بمعزل عن هذا واستعير لهذه الملكة عندما ترسخ وتستقر اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان وإنما هو موضوع لا دراك الطعوم لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لادراك الطعوم استعير لها اسمه وأيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له ذوق وإذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لان قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان وهي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب لما يضطرون إليه من ذلك وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار وبعدوا عنها كما تقدم وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى وليست هي ملكة اللسان المطلوبة ومن عرف تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شئ إنما حصل أحكامها كما عرفت وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرر لكلام العرب فان عرض لك ما تسمعه من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط وأما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شئ وراءها وكأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشأوا في أجيالهم
(٥٦٣)