الفصل السادس في أن السعادة والكسب انما يحصل غالبا لأهل الخضوع والتملق وان هذا الخلق من أسباب السعادة قد سلف لنا فيما سبق أن الكسب الذي يستفيده البشر إنما هو قيم أعمالهم ولو قدر أحد عطل عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية وعلى قدر عمله وشرفه بين الاعمال وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته وعلى نسبة ذلك نمو كسبه أو نقصانه وقد بينا آنفا أن الجاه يفيد المال لما يحصل لصاحبه من تقرب الناس إليه بأعمالهم وأموالهم في دفع المضار وجلب المنافع وكان ما يتقربون به من عمل أو مال عوضا عما يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض في صالح أو طالح وتصير تلك الأعمال في كسبه وقيمها أموال وثروة له فيستفيد الغنى واليسار لأقرب وقت ثم إن الجاه متوزع في الناس ومترتب فيهم طبقة بعد طبقة ينتهي في العلو إلى الملوك الذين ليس فوقهم يد عالية وفي السفل إلى من لا يملك ضرا ولا نفعا بين أبناء جنسه وبين ذلك طبقات متعددة حكمة الله في خلقه بما ينتظم معاشهم وتتيسر مصالحهم ويتم بقاؤهم لان النوع الانساني لا يتم وجوده إلا بالتعاون وإنه وإن ندر فقد ذلك في صورة مفروضة لا يصح بقاؤه ثم إن هذا التعاون لا يحصل إلا بالاكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع ولما جعل لهم من الاختيار وأن أفعالهم إنما تصدر بالفكر والروية لا بالطبع وقد يمتنع من المعاونة فيتعين حمله عليها فلا بد من حامل يكره أبناء النوع على مصالحهم لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع وهذا معنى قوله تعالى ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون فقد تبين أن الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالاذن والمنع والتسلط بالقهر والغلبة ليحملهم على دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة وعلى أغراضه فيما سوى ذلك ولكن الأول مقصود في العناية الربانية بالذات والثاني داخل فيها بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الإلهي لأنه قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير من أجل المواد فلا يفوت الخير بذلك بل يقع
(٣٩٠)