تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٣٦٦
وأقطارها وراء البحر الرومي لما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم وعظمت دولتهم وتعددت مدنهم وحواضرهم وعظمت متاجرهم وأحوالهم فالذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجار الأمم النصرانية الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف وكذا تجار أهل المشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصين فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى والرفه غرائب تسير الركبان بحديثها وربما تتلقى بالانكار في غالب الامر ويحسب من يسمعها من العامة أن ذلك لزيادة في أموالهم أو لان المعادن الذهبية والفضة أكثر بأرضهم أو لان ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم وليس كذلك فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار إنما هو من بلاد السودان وهي إلى المغرب أقرب وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة فلو كان المال عتيدا موفورا لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال ولا استغنوا عن أموال الناس بالجملة. ولقد ذهب المنجمون لما رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتساعها ووفور أموالها فقالوا بان عطايا الكواكب والسهام في مواليد المشرق أكثر منها حصصا في مواليد أهل المغرب وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الاحكام النجومية والأحوال الأرضية كما قلناه وهم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي وبقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الاعمال التي هي سببه فلذلك اختص المشرق بالرفه من بين الآفاق لا إن ذلك لمجرد الأثر النجومي فقد فهمت مما أشرنا لك أولا أنه لا يستقل بذلك وأن المطابقة بين حكمه وعمران الأرض وطبيعتها أمر لا بد منه.
واعتبر حال هذا الرفه من العمران في قطر أفريقية وبرقة لما خف سكنها وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة وضعفت جباياتها فقلت أموال دولها بعد أن كانت دول الشيعة وصنهاجة بها على ما بلغك من الرفه وكثرة الجبايات واتساع الأحوال في نفقاتهم وأعطياتهم حتى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته ومهماته وكانت أموال الدولة بحيث حمل
(٣٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 361 362 363 364 365 366 367 368 369 370 371 ... » »»