تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٢٧٣
الجمادات والحيوانات العجم فيتخذونها ملجأ للخيالة في كرهم وفرهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب وقد يفعله أهل الزحف أيضا ليزيدهم ثباتا وشدة فقد كان الفرس وهم أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب ويحملون عليها أبراجا من الخشب أمثال الصروح مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات ويصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بذلك نفوسهم ويزداد وثوقهم وانظر ما وقع من ذلك في القادسية وإن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بهم على المسلمين حتى اشتدت رجالات من العرب فخالطوهم وبعجوها بالسيوف على خراطيمها فنفرت ونكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرابع * وأما الروم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم فكانوا يتخذون لذلك الأسرة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب ويحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه وترفع الرايات في أركان السرير ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة فيعظم هيكل السرير ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكر والفر وجعل ذلك الفرس أيام القادسية وكان رستم جالسا على سرير نصبه لجلوسه حتى اختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره ذلك فتحول عنه إلى الفرات وقتل * وأما أهل الكر والفر من العرب وأكثر الأمم البدوية الرحالة فيصفون لذلك إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم ويسمونها المجبودة وليس أمة من الأمم إلا وهي تفعل ذلك في حروبها وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرة والهزيمة وهو أمر مشاهد وقد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة واعتاضوا عنه بالظهر الحامل للاثقال والفساطيط يجعلونها ساقة من خلفهم ولا تغني غناء الفيلة والإبل فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم ومستشعرة للفرار في المواقف * وكان الحرب أول الاسلام كله زحفا وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر لكن حملهم على ذلك أول الاسلام أمران أحدهما أن أعداءهم كانوا يقاتلون زحفا فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم الثاني أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر ولما رسخ فيهم من الايمان والزحف إلى الاستماتة أقرب * وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي والجبيري بعده
(٢٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 268 269 270 271 272 273 274 275 276 277 278 ... » »»