تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٢٥٨
بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة وفوق كل ذي علم عليم الآلة * فمن شارات الملك اتخاذ الآلة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة ولعمري إنه أمر وجداني في مواطن الحرب يجده كل أحد من نفسه وهذا السبب الذي ذكره أرسطو إن كان ذكره فهو صحيح ببعض الاعتبارات * وأما الحق في ذلك فهو أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل بالصفير والصريح كما علمت ويزيد ذلك تأثيرا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى لاجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية (1) لا طبلا ولا بوقا فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الابطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قرن إلى قرنه وكذلك زناتة من أمم المغرب يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف ويتغنى فيحرك بغنائه الجبال الرواسي ويبعث على الاستماتة من لا يظن بها ويسمون ذلك الغناء تاصوكايت وأصله كله فرح يحدث في النفس فثنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح والله أعلم وأما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التهويل لا أكثر وربما تحدث في النفوس من التهويل زيادة في الاقدام وأحوال النفوس وتلويناتها غريبة والله الخلاق العليم * ثم إن الملوك والدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات فمنهم مكثر ومنهم مقلل بحسب اتساع الدولة وعظمها فأما الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة

(1) قوله موسيقية وفي نسخة الموسيقار: وهي صحيحة لان الموسيقى بكسر القاف بين التحتيتين اسم للنغم والألحان وتوقيعها ويقال فيها موسيقير ويقال لضارب الآلة موسيقار انظر أول سفينة الشيخ محمد شهاب
(٢٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 ... » »»