تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٢٥٩
ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء * وأما قرع الطبول والنفخ في الأبواق فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه تنزها عن غلظة الملك ورفضا لأحواله واحتقارا لأبهته التي ليست من الحق في شئ حتى إذا انقلبت الخلافة ملكا وتبجحوا بزهرة الدنيا ونعيمها ولابسهم الموالى من الفرس والروم أهل الدول السالفة وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والترف فكان مما استحسنوه اتخاذ الآلة فأخذوها وأذنوا لعمالهم في اتخاذها تنويها بالملك وأهله فكثيرا ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات والآلات فلا يميز بين موكب العامل والخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها أو بما اختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسواد في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سودا حزنا على شهدائهم من بني هاشم ونعيا على بنى أمية في قتلهم ولذلك سموا المسودة * ولما افترق أمر الهاشميين وخرج الطالبيون على العباسيين من كل جهة وعصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضا وسموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين ومن خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق كالداعي بطبرستان وداعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرافضة من غيرهم كالقرامطة ولما نزع المأمون عن لبس السواد وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء وأما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد وقد كانت آلة العبيديين لما خرج العزيز إلى فتح الشام خمسمائة من البنود وخمسمائة من الأبواق وأما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصوا بلون واحد بل وشوها بالذهب واتخذوها من الحرير الخالص ملونة واستمروا على الاذن فيها لعمالهم حتى إذا جاءت دولة الموحدين ومن بعدهم من زناتة قصروا الآلة من الطبول والبنود على السلطان وحظروها على من سواه من عماله وجعلوا لها موكبا خاصا يتبع أثر السلطان في مسيره يسمى الساقة وهم فيه بين مكثر ومقل باختلاف مذاهب الدول في ذلك فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبركا بالسبعة كما هو في دولة الموحدين وبني الأحمر بالأندلس ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناتة وقد بلغت في
(٢٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 264 ... » »»