تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ١٦٨
إلى أن يتأذن الله بأمره وهو خير الحاكمين والله تعالى أعلم الفصل الثالث عشر في أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم وبيانه من وجوه. الأول أنها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه ومهما كان المجد مشتركا بين العصابة وكان سعيهم له واحدا كانت هممهم في التغلب على الغير والذب عن الحوزة أسوة في طموحها وقوة شكائمها ومرماهم إلى العز جميعا يستطيبون الموت في بناء مجدهم ويؤثرون الهلكة على فساده وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيتهم وكبح من أعنتهم واستأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو وفشل ربحهم ورئموا المذلة والاستعباد ثم ربي الجيل الثاني منهم على ذلك يحسبون ما ينالهم من العطاء اجرا من السلطان لهم عن الحماية والمعونة لا يجري في عقولهم سواه وقل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهنا في الدولة وخضدا من الشوكة وتقبل به على مناحي الضعف والهرم لفساد العصبية بذهاب البأس من أهلها. والوجه الثاني أن طبيعة الملك تقتضي الترف كما قدمناه فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعطياتهم ولا يفي دخلهم بخرجهم فالفقير منهم يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف وعوائده وتمسهم الحاجة وتطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحروب فلا يجدون وليجة عنها فيوقعون بهم العقوبات وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم ويضعف صاحب الدولة بضعفهم وأيضا إذا كثر الترف في الدولة وصار عطاؤهم مقصرا عن حاجاتهم ونفقاتهم احتاج صاحب الدولة الذي هو السلطان إلى الزيادة في أعطياتهم حتى يسد خللهم ويزيح عللهم والجباية مقدارها معلوم ولا تزيد ولا تنقص وإن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزيادة محدودا فإذا وزعت الجباية على الأعطيات وقد حدثت فيها الزيادة لكل واحد بما حدث من ترفهم وكثرة نفقاتهم نقص عدد الحامية حينئذ عما كان قبل زيادة الأعطيات ثم
(١٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 163 164 165 166 167 168 169 170 171 172 173 ... » »»