وفى ذلك رويتم عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: " ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا وكان له تردد ونبوة إلا ما كان من أبى بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة والاسلام. فأين إسلام هذا وإسلام من خلى وعقله، وألجئ إلى نظره مع صغر سنه واعتلاج الخواطر على قلبه. ونشأته في ضد ما دخل فيه، والغالب على أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو. فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة، ولم يتأخر إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية، فقهر شهوته، وغالب خواطره، وخرج من عادته وما كان غذى به، لصحة نظره، ولطافة فكره. وغامض فهمه، فعظم استنباطه، ورجح فضله، وشرف قدر إسلامه، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب ولا تنعم فيها بنعيم، حدثا ولا كبيرا، [وحمى نفسه عن الهوى (1)]، وكسر شرة حداثته بالتقوى، واشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا، وأشغل (2) هم الآخرة قلبه، ووجه إليه رغبته، فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره، وما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء، ليعلم أن منزلته من النبي صلى الله عليه وآله كمنزلة هارون من موسى، وأنه وإن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا. ولمنهاجهم متبعا، وكانت حاله كحال إبراهيم عليه السلام، فإن أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد، فلما نشأ ودرج وعقل قال لامه: من ربى؟ قالت: أبوك. قال: فمن رب أبى؟ فزبرته ونهرته، إلى أن اطلع من شق السرب فرأى كوكبا فقال: هذا ربى. فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربى. فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربى هذا أكبر. فلما أفلت قال: يا قوم إني برئ مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. وفى ذلك يقول الله جل ثناؤه: " وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ". وعلى هذا كان إسلام الصديق الأكبر
(٣٠٧)