العثمانية - الجاحظ - الصفحة ٣١١
وقد ذكر هو عليه السلام حاله يومئذ، فقال في خطبة له مشهورة: " فتعاقدوا ألا يعاملونا ولا يناكحونا، وأوقدت الحرب علينا نيرانها، واضطرونا إلى جبل وعر، مؤمننا يرجو الثواب، وكافرنا يحامى عن الأصل ". ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم، وقطعوا عنهم المادة والميرة، فكانوا يتوقعون الموت جوعا صباحا ومساء، لا يرون وجها ولا فرجا، قد اضمحل عزمهم وانقطع رجاؤهم، فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن بعد محمد صلى الله عليه وآله إلا علي عليه السلام وحده.
وما عسى أن يقول الواصف والمطنب في هذه الفضيلة من تقصى معانيها وبلوغ غاية كنهها وفضيلة الصابر عندها. ودامت هذه المحنة ثلاث سنين حتى (1) انفرجت عنهم بقصة الصحيفة. والقصة مشهورة.
وكيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي عليه السلام: إنه قبل الهجرة كان وادعا رافها، لم يكن مطلوبا ولا طالبا، وهو صاحب الفراش، الذي فدى رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه، ووقاه بمهجته، واحتمل السيوف، ورضخ الحجارة دونه. وهل ينتهى الواصف وإن أطنب، والمادح وإن أسهب، إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة، والايضاح لمزية هذه الخصيصة.
فأما قوله: " إن أبا بكر عذب بمكة " فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف، أو لمن لا عشيرة له تمنعه. فأنتم في أبى بكر بين أمرين: تارة تجعلونه دخيلا ساقطا وهجينا، رذيلا مستضعفا [ذليلا]، وتارة تجعلونه رئيسا متبعا وكبيرا مطاعا، فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم.
ولو كان الفضل في الفتنة والعذاب لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبى بكر، لانهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه، ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه، كقوله تعالى: " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا " قالوا: نزلت في خباب وبلال. ونزل في عمار قوله: " إلا من أكره وقلبه

(1) في الأصل: " لو " صوابه في ط.
(٣١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 306 307 308 309 310 311 312 313 314 315 316 ... » »»