العثمانية - الجاحظ - الصفحة ٢٦٠
[لا] تخلو عقول العوام من أن تكون قد عرفت هذا كله وأقرت به، أو لم تعرفه ولم تقر به، ولم تودع العلم بصحة مجيئه.
فإن زعموا أنها لم تعرف ذلك ولم تقرر به، قيل لهم: فمن أين زعمتم أن الحجة لهم قاطعة، والفريضة لهم لازمة، ولا يعرفوا الحق ولا الدليل عليه.
وإذا كانت المعرفة لا تستطاع إلا بالدليل، والدليل معدوم. والتكليف لازم، فقد كلفوا ما لا يستطاع، ولم يضع الكلام بيننا وبين الجبرية.
وإن كان الله قد قرر (1) عقولهم بالآيات، وعرفهم صدقها وصحة مجيئها، فإنما الفرق بيننا وبينهم أنا نزعم أن العاقل إذا كان قد جرب بعض التجربة أنه لا يمتنع من تصديق من أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه، وفلق البحر، وأنطق السباع. وأنتم تزعمون أنه يمتنع، ويجوز أن يعتقد أنه أكذب العالمين وأبطل المبطلين، مع ما أراه (2) من عظيم البرهان وعجيب الآيات. ولعل قوم موسى كلما زادهم موسى آية وأردفها بعلامة، ازدادوا جهلا بصدقه (3) واستبصارا في تكذيبه.
وكيف يستطيع ذلك من صحت فطرته، وقد جرب من أمور الدنيا بعض التجربة، وعرف ما يحدث في العادة وغير العادة.
وإن كانت العامة قد قررت بأعلام الأنبياء، وعرفت الآيات كما زعمتم، فقد كان ينبغي لنا إذا سألناهم عن صدقها وصحة مجيئها وإن لم نفصل بينها وبين جبلة المبطل، أن يخبرونا عنها وينزلوا لنا أمرها. فما بالنا

(1) في الأصل: " قدر ". وانظر ص 261 س 6.
(2) أي ما أراه إياه محي الموتى ومبرئ الأكمه.
(3) في الأصل: " فصدقه ".
(٢٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 255 256 257 258 259 260 261 262 263 264 265 ... » »»